قوله تعالى: ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ،ويريد الشيطان أن يضلهم ضللا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) .
سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار وآخر من اليهود قد تخاصما فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد ،والآخر يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف وهو زعيم اليهود .وقيل كان بين أحد المنافقين ورجل من اليهود خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى أن يحتكما إلى النبي ( ص )؛لأنه يعلم أنه لا يقبل الرشوة ،ودعا المنافق اليهودي لكي يحتكما إلى كعب بن الأشرف زعيم اليهود في المدينة ؛لأنه يعلم أنه يقبل الرشوة فأبى اليهودي أن يخاصمه لغير رسول الله ( ص ) فلما رأى المنافق ذلك فأتى معه إلى النبي والاحتكام إليه فقضى النبي ( ص ) لليهودي فلما خرجا كلاهما من عند النبي قال المنافق: لا أرضى انطلق بنا إلى أبي بكر ليقضي بيننا فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر فقال اليهودي: إنا صرنا إلى رسول الله ( ص ) ثم إلى أبي بكر فلم يرض ( يقصد المنافق ) فقال عمر للمنافق: أكذاك هو ؟قال: نعم فقال عمر: رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل فأخذ السيف ثم ضرب به المنافق فقتله ،وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله وهرب اليهودي .فنزلت الآية فقال الرسول ( ص ) لعمر:"أنت الفاروق "ونزل جبريل وقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق{[780]} .
ومن المناسب أن يتسع مفهوم هذه الآية ليشمل كل من يزعم أنه يؤمن بالله وما أنزل على النبيين من قبله ثم يحتكم إلى غير ما أنزل الله من شريعة وتصوّر .وذلك هو الفصام المصطنع الفادح الذي يفصم عرى الدين عروة عروة .فصام يسوّل للخاطئين أن يقتصروا من الدين على بعض أجزائه ليذروا ما فيه من جوانب أساسية أخرى لا قوام للدين بغيرها .مع أن من أجلى ما في الإسلام من خصائص أنه كل لا يتجزأ وأنه يؤخذ جملة واحدة متماسكة متكاملة كيلا يتخذه الخاطئون عضين .والقرآن يندد بشدة بأولئك المارقين الخاطئين الذين يتخذون القرآن عضين من الذين يؤمنون من القرآن ببعض أجزائه ومعانيه ثم يتخذون ما بقي ظهريا .قال سبحانه: ( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) .وعضين جمع ومفرده عضة وهي الفرقة أو القطعة من الشيء{[781]} .
وعلى ذلك فإن من أفدح الفوادح المنكرة أن يقتصر من يظن نفسه مؤمنا على بعض الجوانب المفروضة في هذا الدين ثم يظن بعدها أنه على الصواب .لكنه في تصور الإسلام بعيد عن الصواب بعدا يزحزحه عن نطاق الإسلام كله ،أو يقذفه في مهاوي الضلالة والشرك من حيث يعلم أو لا يعلم .
ومن هنا تستبين لنا خطورة الموقف الذي يقفه هذا الصنف من الناس الذين يربطهم بالإسلام بعض أجزائه أو قليل من المشاعر المتدينة لكنهم يحتكمون في أمور حياتهم ومعايشهم إلى البشر في شرائعهم وتصوراتهم .فثمة قدر يسير من العلاقة تربط هؤلاء بالإسلام بما يتجلى في أمور العبادة والأحوال الشخصية ،لكن القدر الكبير الأعظم من التصور والتشريع عندهم بعيد عن طبيعة الإسلام لاستمداده من مبادئ وضعية قد صاغتها أدمغة البشر وأهواؤهم .وفي هذا الشرود الجامح عن حقيقة الإسلام والركون إلى مبادئ الشرك والضلالة يندد الله بهؤلاء الذين ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) .والطاغوت هو الشيطان مبعث الإطغاء والغواية والمنفذ إلى الشر كله فهو إذن يعني الباطل وهو يتمثل في كل ما سوى الإسلام من شرائع ومبادئ وتصورات .وعلى ذلك فإن الاحتكام إلى غير الإسلام في أية مسألة أو قضية إنما يعني بالضرورة التحاكم إلى الطاغوت وهو الشيطان .ولا يكون على هذه الشاكلة إلا منافق أو مضلل جاهل وليس له في جهله عذر إلا أن يفيء إلى منهج الله أو دينه الحق ،وهو الإسلام .وبغير الاحتكام الكامل للإِسلام لا يعني غير العتو عن أمر الله أو التمرد على دينه وسلطانه .
أما المنافقون فإنهم كاذبون خادعون يخفون في أنفسهم الكفر ليندسوا في صف المسلمين ليشيعوا فيهم التخريب والفتن ،وإذا ما دعوا إلى الإسلام الحق المبرّأ أخذوا يصدون عنه صدودا .أي يعرضون عن دعوة الله ويحرّضون غيرهم على الجحود والضلال .