سبب النّزول
كان بين رجل من اليهود ورجل من المسلمين المنافقين خصومة واختلاف ،فعزما على أن يحتكما إِلى شخص ،وحيث كان اليهودي يعرف بعدل النّبي وحياده ولأنّه علم أنّه لا يأخذ الرّشوة ولا يجور في الحكم قال: أحاكم إِلى محمّد ،ولكن المنافق قال: لا ،بل بيني وبينك كعب بن الأشرف ،( لأنّه يأخذ الرّشوة وهو من أقطاب اليهود ) ،وبذلك رفض التحاكم إِلى رسول الإِسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فنزلت الآية توبّخ أمثال هذا الشخص ،وتشجب بشدّة موقفهم المشين هذا{[831]} .
وقد ذكر بعض المفسرين أسباباً أُخرى لنزول هذه الآية تشهد بأنّ بعض المسلمين الحديثي العهد بالإِسلام كانواعلى عادتهم في الجاهليةيحتكمونفي مطلع الإِسلامإِلى علماء اليهود أو الكهنة ،فنزلت الآية الحاضرة تنهى عن هذه العادة المقيتة بشدّة{[832]} .
التّفسير
حكومة الطّاغوت:
الآية الحاضرةهي في الواقعمكملة للآية السابقة ،لأنّ الآية السابقة كانت تدعو المؤمنين إِلى طاعة الله والرّسول وأُولي الأمر ،والتحاكم إِلى الكتاب والسنة ،وهذه الآية تنهي عن التحاكم إِلى الطاغوت واتّباع أمره وحكمه .
والطّاغوتكما أشرنا إِلى ذلك سابقاًمشتقّة من الطغيان ،وهذه الكلمة مع جميع مشتقاتها تعني التجاوز والتعدي وكسر الحدود وتجاهل القيود ،أو كل شيء يكون وسيلة للطغيان أو التمرّد .
وعلى هذا الأساس يكون كل من يحكم بالباطل طاغوتاً ،لأنّه تجاوز حدود الله وتعدى على قوانين الحقّ والعدل ،ففي الحديث عن الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق( عليه السلام ) أنّه قال:
«الطّاغوت كلّ من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحقّ » .
والآية الحاضرة تنهى المسلمين عن أن يترافعوا في الحكم والقضاء إِلى مثل هؤلاء الحكام وتقول: ( ألم تر إِلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إِلى الطّاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) .
ثمّ يضيف القرآن قائلا: ( ويريد الشّيطان أن يضلّهم ضلالا بعيداً ) أي أنّ التحاكم إِلى الطاغوت فخّ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم .
وغير خفي أن الآية الحاضرةشأنها شأن سائر الآيات القرآنية الأخرىتتضمّن حكماً عاماً ،وتبيّن قانوناً خالداً لجميع المسلمين في جميع العصور والدهور .وتحذرهم من مراجعة الطواغيت ،وطلب الحكم منهم ،وإِنّ ذلك لا يناسب الإِيمان بالله والكتب السماوية ،هذا مضافاً إِلى كونه يضل الإِنسان عن طريق الحقّ ،ويلقيه في مجاهيل الباطل بعيداً عن الحق .
إِنّ مفاسد وتبعات مثل هذه الأقضية والأحكام ،وأثرها في تحطيم كيان المجتمع البشري وتخريب علاقاته وروابطه وأُسسه ممّا لا يخفى على أحد ،فهي أحد العوامل المؤثرة في إنحطاط المجتمعات وتأخرها .