وقد حرض الله تعالى أهل المدينة بعد الأمر بالصدق على الجهاد ؛ لأن الجهاد من صدق الإيمان كما أشرنا عند الكلام في معنى الصدق ، فقال تعالى:{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} .
قوله تعالى:{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم . . . .}نفي للشأن والكون ، أي ما كان من شأن
أهل المدينة من مهاجرين وأنصار آووا ونصروا وهم أهل النجدة والإيواء ، ومن حولهم من الأعراب الذين أشربوا الإيمان أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويؤثروا الدعة والراحة ، ويتركوه وحده يكابد المشاق ، ويتحمل المتاعب في سبيل عزهم ورفع دينهم ، ما ساغ لهم ذلك ، وهم يرغبون في الدعة وطيب العيش الرغيد ، وقوله تعالى:{ عن نفسه} ، أي متوقفين عن نفسه في أن يرغبوا له ما رغب فيه لهم .
لقد قال الزمخشري في ذلك:أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط ، لا أن يقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنه أعز نفس عند الله وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها ، للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزنا ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ، ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ ، مع تقبيح لامرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفس رحيمة .
والمعنى على هذا في قوله:{ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} أي لا يصونوا أنفسهم عما يرغبون فيه من عيش رغيد هين ، وظل ظليل فلم يصونوا أنفسهم عن رغباتها ، كما لم يصن نفسه عن رغباتها .
ولنا أن نقول:إن عن نفسه معناها متجاوزين نفسه ، ولذا كان التعدي ب( على ) ، و( لا ) في قوله تعالى:{ ولا يرغبوا} لتأكيد النفي ب( ما ) ، أي ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ، ولا كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم ، فتكرار النفي تأكيد له .
وإن هذا خبر في موضع الطلب بأبلغ معاني الطلب ، فيكون المعنى لا تتخلفوا عن رسول الله إذ يخرج للجهاد ، ولا ترغبوا في الدعة ، والإقامة في بحبوحة العيش ، وتتركوا الرسول يخرج للجهاد وحده إن ذلك له جزاؤه ، ولذا قال سبحانه بعد ذلك مبينا الجزاء:
{ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} .
الإشارة في قوله تعالى:{ ذلك} إلى النهي المفهوم من قوله تعالى:{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم} .
إن هذا النفير من أهل المدينة المأمور به ، والمنهي عن التخلف عنه ، وألا يرغبوا بأنفسهم ، كما فعل أبو ذر إذ خرج يتبع الرسول حتى حسب أن بعيره يبطئه عن الوصول إلى الرسول ، فسار على قدميه يحمل متاعه وآلة الحرب ، وكما فعل أبو خيثمة وكانت له زوجة حسناء ، قد تزوجها حديثا ، فرطبت له الأرض بالماء وفرشت له الحصير ، وقدمت له الرطب والماء فتذكر الشدة التي فيها الرسول وصحبه من المهاجرين والأنصار ، فترك ذلك كله ، وركب بعيره حتى لحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، كما ذكر ذلك بسبب أنهم قد أدركوا وفهموا وعد الله تعالى والله لا يخلف الميعاد؛وبسبب أنهم{ لا يصيبهم ظمأ} عطش شديد كذلك الذي اعتراهم في تبوك حتى كادت أعناقهم تتقطع من العطش ، لولا أن النبي استسقى السماء لهم فأغدقت .{ ولا مخمصة} أي جوع شديد ، كالذي أصابهم في هذه الغزوة ، التي فتحت الباب للشام ، إذ أصابهم جوع شديد حتى إنهم كانوا يتقاسمون التمرة ،{ ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار} أي لا ينزلون أرضا تدخل في حماية الكفار ، يكون وطؤها فيه غيظ لهم ، إذ انتهكوا حمى أرضهم ، ولم يستطيعوا حمايتها من جيش الحق والإيمان ، وذلك فيه عنت شديد لهم وإهدار لحرمات أرضهم ، وفي ذلك إذلال لهم بعد أن كانوا لا يمس أحدهم حماهم الذي يحمون{ ولا ينالون من عدو نيلا} ، بأن يحاربوا فيهزموهم .
أي أن ظمأهم الشديد ، وجوعهم الذي صبروا عليه ، ووطأهم أرض العدو الكافر التي كانت لا ترام ، ونيلهم من بني الأصفر الذين يتحكمون ، ولا مسيطر عليهم ا ومحاسب ، ما من أمر يقوم به أهل الإيمان إلا كتب الله تعالى لهم به عملا صالحا عند الله ، ينال أهل الإيمان به رضاه أولا- واعتزازهم بالحق ثانيا ، وجنة النعيم ثالثا ، ولذا قال تعالى:{ إن الله لا يضيع أجر المحسنين} ، أي أن ذلك الجزاء العظيم أجر للعمل الصالح ، وسماه سبحانه أجرا تكرما منه وتفضلا ، وإلا فلا أجر إلا بفضله لأنه المنعم ، والعبد ملك لسيده ، وسمى الذين يقومون بحق الجهاد محسنين ؛ لأنهم قاموا بما وجب عليهم ، وأحسنوا الطاعة ، وأبلوا فأحسنوا البلاء .
هذا نوع الجهاد بأنفسهم ، إذ تركوا الراحة ومتعتها ، وأثروا البلاء فأخذهم الظمأ ، والجوع ، ووطئوا أرض العدو ونالوا منه نيلا .