قال الله تعالى:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 16 ) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( 17 ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 18 ) .
قوله تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ} .
( أم ) هنا للإضراب الانتقالي من باب في الجهاد وتحريض عليه إلى باب الاختبار بالجهاد وتمحيص المخلصين من غير المخلصين ، والهمزة في ( أم ) للاستفهام التوبيخي على حسبانهم وظنهم أنهم يتركون من غير تمحيص ، واختبار وكشف المجاهدين من غيرهم ، ومثل ذلك قوله تعالى:{ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( 2 ) ولقد فاتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ( 3 )} ( العنكبوت ) ، وقوله تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ( 214 )} ( البقرة ) ، وكقوله تعالى:{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . . . . . . . . . ( 179 )} ( آل عمران ) .
وقوله تعالى:{ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} لما للنفي في الحاضر مع توقع الوقوع في المقابل ، ونفى العلم هو نفي المعلوم ؛ لأن الله عليم بكل شيء بما كان وما يكون ، والمراد نفي العلم بالجهاد واقعا ، وإن كان متوقعا ، كما قال تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( 142 )} ( آل عمران ) .
وإن الجهاد جهادان:جهاد بلقاء الأعداء ، واشتجار السيوف ، وجهاد آخر بتنقية الصفوف من الأعداء والدخول ومنع الولاية لغير المؤمنين ، ولذلك عطف{ الذين جاهدوا} ، وهو وصف آخر بقوله:{ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} الوليجة الحاشية البطانة ، أي جاهدوا ولم يتخذوا من الله والرسول والمؤمنين وليجة أي بطانة يسرون إليهم بالمودة ، وتكرار لا لتأكيد البعد عن أن يتخذوا من غير هؤلاء بطانة لهم .
و ( وليجة ) من ولج بمعنى دخل ، ومعنى وليجة:دخيلة مودة وبطانة من دون الله ، وهم يحادون الله ورسوله والله تعالى يقول:{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( 22 )} ( المجادلة ) . ولقد قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( 117 )} ( آل عمران ) .
وقد ضعف شأن المسلمين من وقت أن اتخذ ملوك بني أمية ومن جاء بعدهم من اليهود والنصارى بطانة كانت تدس بين المؤمنين ، وتثير الفتن ، بينهم حتى أدخلوا في الدين ما ليس منه .
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عن الله عليم علما دقيقا بما تعملون من ظواهر أيمانكم وبواطنها .