ولقد حرم الله تعالى على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام من بعد العام التاسع ، وربما كان منهم من يدعي أنه يعمر المسجد الحرام فنهى عن ذلك أيضا ، وقال تعالى:{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( 17 )} .
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} ، أي ما ساغ وما استقام للمشركين أن يعمروا مساجد الله ، وعمارة المساجد بإقامة الشعائر فيها ، وتشييد بنيانها ، وهنا قراءتان قراءة ( مسجد ) الله تعالى وهو البيت الحرام ؛ لأنه أول بيت بني للعبادة وهو أعظم المساجد ، وإذا ذكر المطلق انصرف إلى الفرد الأعظم ، وبيت الله الحرام هو الفرد الأعظم في المساجد ، وهناك قراءة أخرى بالمجمع ( مساجد الله ) وهي قراءة حفص ، وبها قرئت ( مساجد ) ، وتخرج على أن المراد المسجد الحرام ، والجمع ؛ لأن كل بقعة منه مسجد ولأنه إمام المساجد ، فهو قبلة المسلمين ، وكل مسجد له تابع . أو يراد جنس المساجد كما تقول:فلان لا يقرأ الكتب تريد جنس الكتب لا تريد واحدا بعينه ، وإنه ليس للمشركين عمارة المساجد ؛ لأن عمارة المساجد إقامة الشعائر فيها كما ذكرنا وعمارتها بعبادة الله وحده ، وليس من عبادتها إحاطتها بالأصنام ، والطواف عراة ، وغير ذلك من المحدثات التي ليست من العبادة في شيء .
وقوى الله سبحانه وتعالى نفي أن يعمروا المساجد بقوله تعالت كلماته:{ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر أي للمساجد بأن يعبدوا الله حق عبادته ، ولا يشركوا به شيئا ، وقد بين الزمخشري هذه المناقضة فضل بيان فقال:غفر الله تعالى له:( ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متناقضين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر بالله تعالى وبعبادته ، ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم ، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون عراة ويقولون:لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي ، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا للأصنام ) .
وإنه لما التقى الأسرى من قريش بالمهاجرين أخذ هؤلاء يعيرونهم بأنهم قطعوا الرحم ، فقال علي كرم الله وجهه لعمه العباس يعاتبه لقتال ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقطيعة الرحم ، وأغلظ في القول فقال العباس:( تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا ، فقال علي:ألكم محاسن ؟ قال:نعم ، إنا لنعمر المسجد ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاج ونفك العاني .
وقيل إن هذا سبب نزول هذه الآية ، وفي الحق إنه كان في الجاهلية بعض أعمال ولكن يذهب بها كلها الشرك ، فمن يعمل ابتغاء مرضاة الله الواحد غير مفاخر ، ولا معتز بعصبية يكون عمله لله ولا يكون مشركا أحدا بالله في عبادة قط ، ومن يعمل مفاخرا معتزا بعصبيته ، غير متعز بالله ، فعمله في هباء ، ولذلك قال تعالى:{ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، الإشارة إليهم متصفين بالكفر البادي من كل أعمالهم من عبادة الأصنام ، والطواف عراة ، وما يكون من أعمالهم فيه بعض النفع خلطوا به نية المفاخرة ، والعصبية الجاهلية ، والإشارة إلى الصفات تفيد سبب الحكم ، وهو حبوط أعمالهم ودخولهم النار ، وحبوط الأعمال بطلانها وعدم إنتاج ثمرتها ، والحبوط يفيد البطلان الذي يكون ناشئا من ذات العمل ، فبطلان أعمالهم ناشئ من ذاتها ؛ لأنها لا تصحبها النية الطيبة المؤمنة بالله تعالى:{ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} ، قدم الجار والمجرور ( في النار ) لاختصاصهم بالنار لا يدخلون غيرها وتأكد ذلك الحكم بضمير الفصل ( هم ) .