هذا وإن المساجد كما أشار الله سبحانه وتعالى بيوت الله ، ولا تعمر إلا بالعبادة الخالصة لله . وهي مأوى المؤمن في الدنيا ، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه معاذ ابن جبل رضي الله عنه ( إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 18 )} ( 1 ){[1207]} .
( إنما ) للحصر ، فهي أداة من أدوات القصر ، والمعنى:( لا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله . . . . . . . . . . . . . . . . . ) والعمارة كما ذكرنا بالعبادة فيها حق العبادة ، بأن يعبد الله وحده لا شريك له ، وان يقوم بترميم وإصلاح ما وهى منه ، وإذا كان المشركون يفعلون ذلك فغنهم بإشراكهم يبطلون ما صنعوا ، وإن العمارة للمساجد نوعان أحدهما:معنوي ، وهي عمارتها بالعبادة وإقامة شعائر الدين ، والثاني:مادي ، وهي ترميم ما يحتاج الترميم وتنظيفها وإضاءتها بالمصابيح ، وغيرها مما يتصل ببنائها ، وإنه لا يفعل الأمرين إلا الموحدون الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويغشونها لإقامة الدين وجمع المسلمين وسماع القرآن الكريم ، ومواعظ رب العالمين ، وهدى الرسول الأمين .
ويلاحظ أنه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ، فالإيمان بالله الواحد الأحد هو الدين أو لبه ، والإيمان باليوم الآخر هو فيصل الإذعان والتمرد ، وفيصل الإيمان بالغيب والجحود به ؛ إذ لا يكفر به إلا من لا يؤمن إلا بالمحسوس .
وقد يسأل سائل:لماذا لم يذكر الرسول والإيمان به ؟ والجواب عن ذلك أن الإيمان بالله يوجب أن يؤمن بالرسالة الإلهية ، فالإيمان بالله يستلزم لا محالة للإيمان بالرسول الذي بعث رحمة للعالمين ، ولأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي التي جاء بها الرسول الكريم ، وهو الذي علمه الرسول ، فالعمل بها يتضمن لا محالة الإيمان بالرسول ، فهذا عمل يتضمن علما ؛ ولأن الإيمان بالله يقترن به دائما الإيمان بالرسول فكان الإيمان بالرسول معلوما من غير إعلام ، وبينا من غير بيان .
وقوله تعالى:{ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّه} ومعنى الخشية الخوف المقترن بالخضوع والخشوع ، فمعنى قوله تعالى:{ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّه} أي لم يخش خوف خضوع وتذلل ومحبة إلا الله ، فلا يخاف من رئيس يرهب ، أو صنم يعبد ولا يذل لكبير ، ولا لصنم ، ولا يخضع لأحد غير الله .
قال الزمخشري:فإن قلت:كيف قيل:{ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّه} والمؤمن يخشى المحاذير لا يتمالك ألا يخشاها . قلت:الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وألا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف ، وإذا اعترضه أمران أحدهما حق الله ، والآخر حق نفسه فيؤثر حق الله تعالى حق نفسه ، وقيل كانوا يخشون الأصنام ويرجونها وأريد نفي ذلك .
قوله تعالى:{ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، و ( أولئك ) إشارة إلى صفات هؤلاء من إيمان بالله واليوم الآخر ، وإقامة الصلاة وإيتاء للزكاة ، وألا يخشوا إلا الله ، والإشارة إلى الصفات إيماء إلى أن هذه الصفات هي السبب في رجاء الهداية .
ومؤدى ذلك أولا:أن المشركين ليس لهم أن يكونوا من المهتدين ؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يخشون غير الله ، ولا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة .
والرجاء من هؤلاء المؤمنين لأنهم قدموا ما يسوغ هذا الرجاء ، وذكر الرجاء لمنع الاغترار ، فإن اغترار قد يدلي بالغرور ، فيفسد التقرب ، ولقد قال بعض الصوفية:إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا .
وإن الآية تشير إلى فضل عمارة المساجد بالعبادة ، وتنظيفها من الأوساخ الحسية والمعنوية بالمنع من لغو الحديث فيها ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا ، لا تجالسوهم ، فليس لله بهم حاجة ) ( 1 ){[1208]} وقال عليه الصلاة والسلام:( الحديث في المساجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ) ( 2 ){[1209]} ، وقال عليه السلام في حديث قدسي عن ربه:( إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره ) ( 3 ){[1210]} ، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:( من ألف المسجد فقد ألف الله ) ( 4 ){[1211]} ، وقال عليه الصلاة والسلام:إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) ( 5 ){[1212]} ، وعن أنس رضي الله عنه:من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه .
وقد نقلنا هذه الأخبار في آداب المسجد ، وعمارته ونظافته وإضاءته من الكشاف للزمخشري ، وهي تدل على أمرين:أولهما:أن عمارة المسجد تكون أولا بالعبادة فيه ، وبعده عن لغو الحديث ، وثانيهما:العناية به وبإسراجه .