فضل الإيمان والجهاد:
قال تعالى:
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 19 ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( 21 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 22 )
كان المشركون بمكة يفاخرون دائما بأنهم سدنة البيت الحرام يسقون حجيجه ، ويعمرونه بالتنظيف والتشييد ، والقيام على شئونه وما يحتاج إليه من عمارة ، وهم أهل جواره الذين يستقبلون الناس ويتطاولون على الناس بهذه المكانة ، حتى إنه ليروى أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يقول قبل إسلامه أو قبل أن يظهر إسلامه لابن أخيه علي بن أبي طالب:تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا ، كنا نسقي الحجيج ونعمر البيت ، ونطعم الطعام ، ونأوي العاني . بل إنه يروى أن بعضهم قال لليهود الذين كانوا يمالئونهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:أينا خير أنحن الذين نقوم بالسقاية والسدانة ، ونطعم الطعام ، أم محمد ؛ فيقول لهم اليهود الذين لم يجر على ألسنتهم قول الحق قط:أنتم .
يقول الله تعالى موبخا مستنكرا:{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} والمعنى أصيرتم سقاية الحاج ، أي جنس الحاج وهم الحجيج ، وعمارة المسجد الحرام ، أي تنظيفه والقيام على بنائه وتشييده ، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله .
وقال أكثر المفسرين:إن في الكلام تقديرا لمحذوف تقديره:أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، وقولا إنه يدل عليه قراءة ( سقاة ) ( 1 ){[1213]} بضم السين وهي جمع ساق ، ويكون المعنى على هذه القراءة:أصيرتم سقاة الحجيج ، وأهل عمارة البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله تعالى ، والاستفهام إنكاري توبيخي متضمن النفي وان ما صنعوا لا ينبغي لأهل العقول المدركة ، والآيات تتلى عليهم بالحق المبين ليتدبروه فينكصون عنه ، ويسمرون بهجر القول ، ويتفاخرون بشعر العرب ، كما قال تعالى:{ قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ( 66 ) مستكبرين به سامرا تهجرون ( 67 )} ( المؤمنون ) ، أي يهجرون القرآن ، وكان يسمرون بالأساطير والخرافات ويهجرون القرآن هجرا .
وقد أجاب سبحانه وتعالى عن الاستفهام التوبيخي مبينا الحق{ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ} فمقامهم عند الله مختلف مقام المجاهد المؤمن بالله واليوم الآخر ، مقام عال ، لا يناصي ، ومقام المشرك الذي لا يكتفي من الشرف بالسقاية والعمارة المادية ، ويظن ذلك مقربا إليه زلفى ، وهو يشرك بالله في عبادته الأنداد . إنهم تركوا الجوهر وناقضوه ، وأخذوا بمظهر باطل لا يغني عن الحق شيئا .
وقد بين جزاء الأعلياء المفضلين من بعد ، وبين هنا ضلال المشركين ، فقال تعالى:{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} والظالمون هم المشركون ، وقد سمى الله الشرك ظلم ، لأن المشرك ظلم الحق فعبد أوثانا لا تضر ، وظلم العقل المدرك فطمسه ، وظلم نفسه فتردى بها في مهاوي الضلال ، وطمس الحق ، وإن الله لا يهدي الذين أركسوا أنفسهم في هذا ، لأنهم لم يسلكوا نجد الحق والعقل والإدراك السليم .
وهنا إشارة بيانية ، وهي أن سياق الآية في ظاهره من غير تقدير جعل المناظرة بين سقاية الحاج وعمارة البيت الحرام ومن آمن . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والمعنى إيمان من آمن ، ولكنه ذكر من آمن . . . . . . . . . . . . . . . . . . وذلك لبيان الإيمان قائما في أصحابه محسوسا مرئيا ، لأنه تزكية ظاهرة ، ودعوة عملية إليه كقوله تعالى:{. . . . . . . . . . . . . . . ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( 20 )} ( البقرة ) ، إلى آخر آية البر .