/م19
قال عز وجل:{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} ؟ مقتضى حديث النعمان بن بشير أن الخطاب هنا للمؤمنين الذين تنازعوا أي هذه الأعمال أفضل ؟ ومقتضى حديثي علي وابن عباس أن الخطاب للمشركين ، والاستفهام فيه للإنكار ، وتشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات كإسناد كل منهما إلى الآخر من ضروب الإيجاز المعهودة في بلاغة القرآن ، كقوله تعالى:{ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة} [ البقرة:177] الخ ، وطريقة المفسرين في هذا معروفة وهي تحويل أحدهما إلى الآخر ليتحد المشبه والمشبه به ، والمسند والمسند إليه ، فيقولون هنا:أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل العمارة للبيت أو فاعل كل منهما ومتوليه كمن آمن بالله واليوم الآخر الخ ، وهو الموافق لبقية الآية وما بعدها ، أو يقولون:أجعلتم هذه السقاية والعمارة كالإيمان بالله واليوم الآخر الخ ؟ والاستفهام للإنكار المتضمن لمعنى النهي .أي لا تفعلوا ذلك ، فإنه خطأ ظاهر كما بينه ما بعده .
ونكتة هذا التعبير بيان أن هذا الفعل ليس كالفعل الآخر ، وأن الفاعل لكل منهما ليس كالآخر ؛ بل بينهما من التفاوت والدرجات ما بينه تعالى بيانا مستأنفا بقوله:{ لا يستوون عند الله} إلى قوله:{ أجر عظيم} أي لا يساوي الفريق الأول الفريق الثاني في صفته ، ولا في عمله في حكم الله ، ولا في مثوبته وجزائه عنده في الدنيا ولا في الآخرة ، فضلا عن أن يفضله كما توهم بعض المسلمين ، وكما يزعم كبراء مشركي قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ، ويستكبرون على الناس به ، كما قال تعالى:{ مستكبرين به سامراَ تهجرون} [ المؤمنون:67] ، على القول بأن الضمير في [ به] للبيت ، وإن لم يسبق له ذكر في الآيات التي قبل هذه الآية ، قالوا:لأن اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم قوامه وسدنته وعماره أغنى عن سبق ذكره ، وكانت العرب تدين لهم بذلك لامتيازهم عليهم به وبسقاية حجاجه وكذا ضيافتهم وإن لم تكن عامة كالسقاية ، لأن الحاجة إليها لم تكن عامة إذ من المعلوم أن الحجاج كانوا وما زالوا أحوج إلى الماء في الحرم من الزاد ؛ لأن كل حاج كان يمكنه أن يحمل من الزاد ما يكفيه مدة سفره إلى الحرم وعودته بعد أداء المناسك ، ولا سيما العربي القنوع القليل الأكل ، ولكن لا يمكنه أن يحمل من الماء ما يكفيه كل هذه المدة ولا نصفها ، ولذلك كان أول شروطه استطاعة الحج الزاد لإمكانه مع كفالة أولي الأمر في الحرم لتوفير الماء فيه ، وحكومة السنة السعودية في هذا العهد تزداد عنايتها في كل سنة بتوفير الماء ونظافته لمئات الألوف من الحاج .وأما سقيهم الماء المحلى فقد بطل منذ قرون كثيرة ؛ لأنه صار متعذرا لكثرتهم ، ولو كان ريع أوقاف الحرمين في الأقطار الإسلامية يضبط ويرسل إلى حكومة الحجاز لأمكنها إعادته ووضع نظام لتعميمه في مكة أو منى .
هذا وإن فضيلة البيت الحقيقية التي بني لأجلها هي عبادة الله وحده فيه بما شرعه كما يحب ويرضى ، وقد جنى عليه المشركون ودنسوه بعبادة غيره فيه ، ثم بصد المؤمنين الموحدين له عنه ، كما قال:{ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [ الفتح:25] ، ثم إخراجهم إياهم من جواره ؛ لإيمانهم بربوبيته وألوهيته تعالى وحده دون ما أشركوه معه ، كما قال للمؤمنين:{ يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} [ الممتحنة:1] ، وقال فيهم{ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [ الحج:40] ، فأي مزية تبقى مع هذه الجرائم لخدمة حجارته واحتكار مفتاحه وسقاية المشركين من حجاجه ؟ وأي ظلم أشد من هذا الظلم في موضوعه ؟
{ والله لا يهدي القوم الظالمين} إلى الحق في أعمالهم ، ولا إلى الحكم العدل في أعمال غيرهم ، أي ليس من سنته في أخلاق البشر وأعمالهم أن يكون الظالم مهديا إلى ما هو ضد صفة الظلم ومناف لها وهو الحق والعدل ؛ لأنه جمع بين ضدين بمعنى النقيضين ، والقوم الظالمون أشد إسرافا في الظلم من الأفراد ، وأبعد عن الهدى بغرورهم بقوتهم وتناصرهم .ومن أقبح هذا الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت وحفظ مفتاحه وسقاية الحاج على الإيمان بالله وحده المطهر للأنفس من خرافات الشرك وأوهامه ، والإيمان باليوم الآخر الذي يزعها أن تبغي وتظلم ويحبب إليها الحق والعدل ، ويرغبها في الخير وعمل البر ، ابتغاء رضوان الله لا للفخر والرياء ، وعلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس لإحقاق الحق وإبطال الباطل وترقية شؤون البشر في مدارج العلم والعمل .ومن المعلوم أن هذا الجهاد يشمل القتال والنفقة فيه وغيرهما من أنواع مجاهدة الكفار ، ومجاهدة النفس لإبلاغها مقام الكمال ، وهذه الجملة ظاهرة في الرد على المشركين ، وإبطال تبجحهم وفخرهم على المؤمنين .