وبعد أن بين الله تعالى أن الظالمين بسبب ما سلكوا يستمرون في غيهم يعمهون ، بين جزاء الهداة الذين جاهدوا بعد أن آمنوا وهاجروا .
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 )} .
هذا النص الكريم ، هو الحكم الذي أصدره الله تعالى في قضية الموازنة بين الإيمان والجهاد وبين سقاية الحاج ، وعمارة البيت ، فقال تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ} .
ذكرهم سبحانه وتعالى بأنهم أعظم درجة ، وأفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لأنه إذا كان على بابه يكون مؤداه أن الذين اكتفوا بالسقاية والعمارة لهم درجة عظيمة عند الله ، وإن لم تكن الدرجة الأعظم ، إذ الحقيقة أنهم ما داموا على الشرك ليست لهم عند الله أية درجة ، بل إنهم في الحضيض الأوهد ، ولا درجة لهم عند الله قط ، وإذا كان أفعل التفضيل ليس على بابه ، فمعناه أنهم عند الله في درجة عظيمة ، لا تطاولها درجة ، وعبر بأفعل التفضيل لما كان من مقابلة لفظية .
وهذه الدرجة العظيمة التي لا تفضل عنها درجة قط ؛ لأنهم كانوا في أوصاف عالية تجعلهم رجال الله ورجا ل الحق – أولها – أنهم آمنوا ، والإيمان في وسط الشرك الغامر والوثنية الغالبة في جهاد النفس ، ومغالبة الباطل ، ونور العقل ، ومقاومة الجاهلية وعصبيتها ، وطغيانها ، وشرورها وآثامها ، ومع ذلك كله تكون رفعة الدرجة ، إذ بمقدار تلك المغالبة النفسية يكون علو الدرجة .
والوصف الثاني – أنهم هاجروا ، إذ إن ذلك الوصف يتضمن نداء الإيمان بالرضا بترك الأهل وصرم القرابة والدعة والراحة ، وتحمل الأذى ، والخروج بالإيمان نقيا طاهرا من أرجاس الجاهلية وعصبيتها ، والخروج من جو الجاهلية المعتكر بالعصبية والضلال إلى جو النور والإيمان .
والوصف الثالث – أنهم جاهدوا في سبيل الله ، أي طريق الله الحق بأموالهم وأنفسهم ، فلم يكن إيمانهم سلبيا بل كان إيمانا إيجابيا ، آمنوا بالحق ، وضحوا في سبيله بالأهل والولد ، ثم دعوا إليه محاربين الباطل ، جاهدوا أنفسهم أولا بتخليصها من أدران الشرك وأوهامه ، وصابروا على الأذى بعد أن صبروا عليه وقدموا أموالهم مجاهدين ، وأنفسهم في اشتجار السيوف والرماح ، واستجابوا لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:( جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم ) ( 1 ){[1214]} .
وقد حكم الله تعالى لهم فقال:{ وأولئك هم الفائزون} الإشارة إلى أوصافهم ، وفيه دلالة على أن هذه الأوصاف هي سبب ذلك الفوز ، وقد بين سبحانه أنهم المختصون بالفوز دون غريهم ؛ لأن تعريف الطرفين وضمير الفصل دلا على أنهم المختصون بالفوز ، ولا فائز إلا من عمل عملهم ، وحمل أوصافهم ، فهم رجال الله تعالى حقا ،