{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} فهذا هو النموذج الإنساني الذي يحقق للمساجد رسالتها ،ويعطيها معناها ،ويحركها في الاتجاه الروحي الذي يجعل أبواباً مفتوحة على الحياة المتحركة من خلال الله وباسمه ،لينطلق الإنسان على أساس ذلك ،عاملاً في أرض الله في الأجواء الروحيّة التي يختزنها في أعماقه من روحيّة الإيمان في المسجد .فقصة المسجد ،ليست في هذه الأحجار الجامدة التي تمثل سقفه وحيطانه ،وليست في هذه الأشكال المزخرفة التي توحي بعظمة الفن وروعة الإبداع ،بل هي في الإنسان الذي يعمر المسجد بالعبادة المنطلقة من الفكر الإيماني ،والشعور الروحي ،والممارسة الخيّرة ،حيث يتحول المسجد إلى ساحةٍ للانطلاق الإنساني من أجل بناء الحياة على قواعد الحقّ والقوّة والعدل ،من خلال ما يثيره من عمق الروحيّة الواقعية التي تصنع الإنسان المسؤول الفاعل ،الذي يعطي الحياة من نفسه وطاقاته أكثر مما يأخذ منها ،لأنه لا يجد فيها الفرصة السانحة للعبث واللهو وممارسة الشهوات ،بل يجد فيها الموقع المتقدم الذي يمارس فيه مسؤوليته كعبادةٍ خالصةٍ بين يدي الله .وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر وجهاً من وجوه حركة الإنسان في الداخل ،التي تدفع حركته في الخارج إقامةً للصلاة وإيتاءً للزكاة ،كما كانت الخشية من الله ،والتحرر من كل خوف من غيره ،عنصر قوّة في رفض كل أشكال العبادة المنحرفة لآِلهة الأرض الذين اعتبرهم المنحرفون آلهةً من دون الله وكل المناهج الضالّة التي سار عليها الناس بعيداً عن المنهج الذي يريد الله للحياة أن تنطلق منه وتسير عليه .وهذا هو الذي يحقق للإنسان حريته بعمقٍ ،ويعطي للمسجد أجواء الحرية التي يتنفسها المصلّون والمتعبدون ليخرجوا إلى الحياة من خلال المسجد بفكر حُرٍّ ،وإرادةٍ حُرّةٍ ،وموقفٍ يجسد الحرية كمنهج حياة ،وكحركة واقع .
{فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} لأن ذلك هو سبيل الهدى الواضح .وربما كان التعبير بكلمة «عسى » التي لا توحي باليقين بالنتائج ،إيحاءً للإنسان بأن عليه أن يظل في موقف الترقب والحذر في قناعاته وممارساته ،فلا يستسلم لذلك كله في اعتبار النتائج المصيرية حاسمةً ،فلعل هناك شيئاً خفيّاً في الداخل لم يلتفت إليه ،ولعل هناك حالةً مَرَضيّةً لم يشعر بها ،ما يجعله واقفاً بين الخوف والرجاء ،والبحث الدائب من أجل تعميق الإيمان في نفسه ،وتصحيح التجربة في موقفه .