/م17
قال تعالى:
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} النفي في مثل هذا التعبير يسمى نفي الشأن كما سبق بيانه في نظائره ، مع بيان أنه أبلغ من نفي الفعل طبعا أو شرعا ؛ لأنه نفي له بالدليل .والمساجد جمع مسجد ، وهو في اللغة مكان السجود ، وقد صار اسما للبيوت التي يعبد فيها الله تعالى وحده ، كما قال تعالى:{ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [ الجن:18] .
قرأ أبو عمرو ويعقوب وابن كثير{ مسجد الله} بالإفراد ، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وهم أكبر مفسري السلف .
وقرأ باقي السبعة وآخرون{ مساجد الله} بالجمع .
والمتبادر من الإفراد إرادة المسجد الحرام ؛ لأنه المفرد العلم الأكمل الأفضل من المساجد ، وكلها لله ، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل ، والمراد من المساجد جنسها الذي يصدق بأي فرد من أفرادها ، كما يقولون فلان يخدم الملوك وإن لم يخدم إلا واحدا منهم ، وفلان يركب البراذين أو الحمير وإن لم يركب إلا واحدا منها ، ومنه{ والخيل والبغال والحمير لتركبوها} [ النحل:8] ، على أن بعضهم زعم أن المراد بالجمع المسجد الحرام أيضا ، وعللوه بقول الحسن:إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها ، وهو ضعيف وركيك ، ويقتضي أن النفي وما يتضمنه من المنع خاص به ، وهو باطل إجماعا .وتفسير المفرد بالجمع لإفادته العموم بالإضافة أصح لفظا ومعنى ، لولا أنهما تكرار لا تظهر له فائدة ، فالحق أن كلا من القراءتين مقصود ، وفائدة ذكر المفرد مع الجمع التنويه بمكانته ، وكونه محل النزاع ، وسبب القتال بين المؤمنين والمشركين .
وعمارة المسجد في اللغة لزومه والإقامة فيه للعبادة أو لخدمته بالترميم والتنظيف ونحوهما ، وعبادة الله فيه ، وزيارته للعبادة ، ومنها الحج والعمرة .قال في اللسان:عمر الرجل ماله وبيته يعمر [ بالضم] عمارة وعمورا وعمرانا لزمه ...ويقال لساكن الدار:عامر ، والجمع عمار . ( وهنا ذكر البيت المعمور وما روي في تفسيره ، وقال:والمعمور المخدوم ) ، ثم ذكر:عمر الرجل الله بمعنى عبده ، قال:والعمارة [ بالكسر] ما يعمر به المكان ، والعمارة [ بالضم] أجرة العمارة .[ قال]:والعمرة [ بالضم] طاعة الله عز وجل ، والعمرة في الحج معروفة مأخوذة من الاعتمار ، وهو الزيارة والقصد ...وهو في الشرع زيارة البيت الحرام بالشروط المخصوصة المعروفة .قال الزمخشري:ولم يجئ فيما أعلم عمر بمعنى اعتمر ، ولكن عمر الله إذا عبده ، وعمر فلان ركعتين إذا صلاهما ، وهو يعمر ربه يصلي ويصوم اه ملخصا .
وقال الراغب:العمارة نقيض الخراب ، يقال:عمر أرضه يعمرها عمارة .وقوله:{ إنما يعمر مساجد الله} إما من العمارة التي هي حفظ البناء ، أو من العمرة التي هي الزيارة ، أو من قولهم:عمرت بمكان كذا أي أقمت به ، لأنه يقال:عمرت المكان وعمرت بالمكان انتهى .وظاهره أنه يقال:عمر بمعنى اعتمر فليحرر .
فعلم من هذه النصوص أن عمارة المسجد تطلق على عبادة الله فيه مطلقا ، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة وهي خاصة بالمسجد الحرام ، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية ، وعلى بنيانه وترميمه .وكل ذلك مراد هنا ؛ لأن اللفظ يدل عليه والمقام يقتضيه .والمختار عندنا استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير .
روي عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي له القول ، فقال العباس:ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ؟ فقال له علي رضي الله عنه:ألكم محاسن ؟ فقال:نعم ، إننا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله عز وجل ردا على العباس{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} الخ ، والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا ، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة ؛ بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك كما تقدم .
ومعنى الجملة:ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين- ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم ، أو الذي يشرعه ، أو يرضاه الله منهم ، أو يقرهم عليه- أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه ، ولا أن يزوروه حجاجا ومعتمرين ، ولا شيئا من سائر مساجده كذلك .
{ شاهدين على أنفسهم بالكفر} أي ما كان لهم ذلك في حال كونهم كافرين شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا ؛ لأن هذا جمع بين الضدين ، فإن عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية بعبادته فيها وحده ، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحد له ، وذلك ضد الكفر به ، وأي كفر بالله أظهر وأشد من الشرك به ومساواته ببعض خلقه في العبادة ؟ وهو ما كانوا يفعلونه من عبادة الأصنام بالاستشفاع بها ، والسجود لما وضعوه في البيت منها عقب كل شوط من طوافهم فيه ، وأي اعتراف به أصرح من نص تلبيتهم له تعالى وهي قولهم بأفواههم:لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .وكانوا يكفرون بالبعث والجزاء أيضا ، ولما بعث فيهم محمد رسول الله وخاتم النبيين كفروا به وبما جاء به من البينات والهدى ، كفر سادتهم وكبراؤهم جحودا وعنادا ، وتبعهم دهماؤهم خضوعا لهم وتقليدا .ومن النصوص الدالة على جحودهم آية{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [ الأنعام:33] ، ومن الأدلة على عنادهم آية{ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [ الأنفال:32] .
فقوله تعالى:[ شاهدين] الخ قيد للنفي قبله مبين لعلته ، والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به ، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به لا تمكن المكابرة فيه .وقد قيل:إنه لا يجوز للمسلمين أن يستخدموا الكفار في بناء المساجد ؛ لأنه من العمارة الحسية الممنوعة ، وفيه نظر ؛ لأن الممنوع منها إنما هو الولاية عليها ، والاستقلال بالقيام بمصالحها ، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا .وأما استخدام المسلمين للكافر في عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة ، والبناء والنجارة ، فلا يظهر دخوله في المنع ، ولا فيما ذكر من نفي الشأن ، فإن نفي الشأن المذكور دليل على التشريع في هذه المسألة ، وكونه حقا مبنيا على أساس ثابت في فطرة البشر وليس تشريعا لها .والدلالة فيه عقلية علمية كما علم من تفسيرنا له .
[ فإن قيل] قد وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن بنى مسجدا للمسلمين ، ومنهم من أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك .[ قلت]:إن هذا لا يعارض ما فسرنا به نفي الشأن ، ولا ما بني عليه من الحكم ، وللمسلمين أن يقبلوا مثل هذا المسجد وهذه الوصية بشرط أن لا يكون فيهما ضرر آخر ديني ولا سياسي ، لأنه حينئذ يكون كمسجد الضرار الذي يأتي ذكره في هذه السورة ، فلو عرض اليهود على المسلمين في هذا العصر أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان تداعى أو ضعف من بنائه ، أو بذلوا لهم مالا لذلك لما جاز لهم أن يقبلوا هذا ولا ذاك وإن لم يتول اليهود العمل ، لما علم من طمعهم في الاستيلاء على هذا المسجد والتوسل له بما يجعلونه ذريعة لادعاء حق ما لهم فيه ، على كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكتابيهما ، وقولهم على مريم بهتانا عظيما .
{ أولئك حبطت أعمالهم} أي أولئك المشركون الكافرون بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم قد حبطت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وغيرهما من أعمال البر كقري الضيف وصلة الرحم ، أي بطلت وفسدت حتى لم يبق لها أدنى تأثير في صلاح أنفسهم مع الشرك والكفر ومفاسدهما ، وأصله من الحبط ، وهو بالتحريك أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ ويفسد جوفها .قال تعالى:{ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} [ الزمر:65]{ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [ الأنعام:88]{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}[ الكهف:105] .
{ وفي النار هم خالدون} أي وهم مقيمون في دار العذاب التي تسمى النار دون غيرها ، إقامة خلود وبقاء لكفرهم المحبط لأعمالهم الحسنة حتى لا أثر لها في تزكية أنفسهم وإحاطة خطيئاتهم بها وتدسيتها لها ، فلم يبق فيها أدنى استعداد لجوار الله تعالى في دار الكرامة ، وما ثمة إلا الجنة أو النار{ فريق في الجنة وفريق في السعير} [ الشورى:7] .