قلنا في أول تفسير هذه الآية ، إن المشركين هنا تعم المشركين الذين يعبدون الأحجار ، والذين يعبدون الأشخاص . ولذلك قال تعالى:
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( 29 )} .د
ذكرنا أن النصارى واليهود ، لأنهم عبدوا أشخاصا وافتروا على الله تعالى – مشركون ، وإن سموا أهل الكتاب ؛ لأن الله تعالى بعث إليهم رسولين من أولى العزم من الرسل ، وأنهم حرفوا تعاليمهم ، وكتبهم التي نزلت من عند الله تعالى ، وقد أمر الله تعالى بقتالهم كالمشركين على سواء ؛ لأن الشرك يجمعهم وإن اختلفوا عنهم بأن كتابا جاء بالتوحيد خوطبوا به ، فكانت الحجة قائمة عليهم أشد من قيامها على الأميين من المشركين .
ولذا ذكر الله تعالى وصفا موجبا للقتال يجمعهم مع المشركين ، فقال تعالى:{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ} وكرر لا لتأكيد كفرهم باليوم الآخر ؛ لأنهم صدقوا به على انحراف ، فاليهود منهم الفريسيون ، لا يؤمنون بيوم الآخرة قط ، وسائرهم لا يؤمن بالجزاء الأخروي ، ويعتقدون أن ما ذكر من عذاب العصاة والمذنبين إنما هو في الدنيا ، لا في الآخرة بل إنهم ينكرون الروح ولا يؤمنون إلا بالمادة ، فهم ماديون في اعتقادهم من كل الوجوه .
والنصارى لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الحقيقي ، فهم يقولون إن الذي يدين الناس به هو المسيح لا الله وحده .
ويعتقدون أنه شريك لله تعالى على أنه الابن ، وهو بهذا هو الذي يدين ، فالطائفتان لا تؤمنان بالآخرة ولا تؤمنان بالله حق إيمانه ، فهم يشركون بالله في العبادة أشخاصا ، ويستوي من يشرك مع الله حجرا ، ومن يشرك مع الله شخصا ، فالاثنان مشتركان ، وكلاهما يشرك من ليس له مع الله تعالى أمر ، ومن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولو كان نبيا مرسلا ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكى عنه ربه:{ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا . . . . . . .( 188 )} ( الأعراف ) .
وقال الله تعالى في تكملة أوصافهم{ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ} لقد حرم عليهم في التوراة ، وهي شريعة لليهود والنصارى أكل الخنزير فأكلوه ، وحرم عليهم الربا ، فاستحلوه ، وحرم عليهم أن يسفكوا دماءهم فسفكوها ، وكانوا كالمشركين يحرمون الطيبات ويستحلون الخبائث .
ثم ذكر سبحانه وتعالى من أوصافهم التمرد على الحق ،{ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} ، أي لا يدينون دين الإسلام الذي هو الحق في ذاته ، لقيام الأدلة والبراهين والآيات القاطعة المثبتة صحة نبوة محمد ، ونزول القرآن الكريم ، وعجز العرب أن يأتوا بمثله ، بل عجز الناس أجمعين ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وثبت أن الدين هو الحق الخالد الذي نسخ ما قبله من الأديان ؛ لأن فيه خلاصتها الباقية ، ولو كان موسى بن عمران حيا لآمن به واتبعه ، وعندهم العلم به ، لأن التوراة والإنجيل قد بشرا به ، ويعرفون رسالة محمد كما يعرفون آباءهم وأبناءهم ، ومع ذلك تمردوا ولم يؤمنوا ولما جاءهم ما عرفوا كفروا به .
وقال تعالى:{ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} ( من ) بيانية للذين في قوله تعالى:{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} وإذا كانت ( من ) بيانية يكون المؤدى:قاتلوا الذين أوتوا الكتاب ، وإنما ذكر الكلام أولا معرفا بأوصاف من يقاتلون ، ثم بين بعد ذلك ب ( من ) ، لبيان هذه الأوصاف الموجبة للكفر والعناد أولا ، ولبيان تمردهم عن الحق ثانيا ، ولأن الإجمال ثم البيان يثبت المعنى فضل تثبيت ثالثا .
فالمقصود قتال أهل الكتاب بعد قتال المشركين ، وفل شوكتهم ، ولقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك:
( هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، واستقامت جزيرة العرب على أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فأذعنوا له واجتمع من المقاتلة نحوا من ثلاثين ألفا ) .
وذلك لأن والى الروم قتل من أسلم من أهل الشام ، فكان لا بد
من تقليم أظفارهم ، والكلام في القتال غي غزوة تبوك سيأتي قريبا ، إن شاء الله تعالى .
وإن هذا القتال له نهاية وهو العهد ، ولذا قال تعالى:{ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وقوله تعالى:{ عن يد} أي عن يد مواتية طائعة راضية ، غير ممتنعة ، والتعبير باليد إشارة إلى إنهاء القتال الذي يكون بيد باطشة ، متجاوزين إلى يد معطية للجزية بالرضا ،{ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، أي كما نقول غير متمردين ، قد دخلوا في طاعة أهل الإيمان في صغار منقادين مؤتلفين ، غير مجاهرين بالعداوة .
وما يعطيه الذمي من المال يسمى جزية ؛ لأنها تجزى أن تقضى ؛ ولأنها جزاء لأن يدفع الإسلام عنهم ، ويكفيهم مئونة القتال ، ولأنها جزاء لما ينفق على فقراء أهل الذمة كما كان يفعل الإمام عمر ، وكما هو واجب في ذاته على المؤمنين وإن المسلمين في عصر الصحابة كانوا يوفون بعهودهم مع المؤمنين ، روي أن أبا عبيدة عامر بن الجراح ، كان أخذ مالا من أهل حمص على أن يدفع عنهم جيش الرومان إن أغاروا عليهم ، فلما أصيب جيشه بالطاعون ضعف عن رد غاراتهم ، ورد إليهم أموالهم .
والإسلام قام بحق التساوي بين جميع من يكونون في طاعته ، فإن الجزية التي تكون على الذمي تقابل ما يكون على المسلم من تكليفات مالية ، فعليه زكاة المال ، وعليه صدقات ونذور ، وعليه كفارات ، وغير ذلك ، ولو أحصى كل ما يؤخذ من المسلم لتبين أنه لا يقل عما يؤخذ من جزية إن لم يزد .
وإن الدولة كما ذكرنا تنفق على فقراء أهل الذمة ، ولقد روي أن عمر – رضي الله تعالى – عنه وجد شيخا يهوديا يتكفف ، فسأله:من أنت يا شيخ . ؟ قال رجل من أهل الذمة ، فقال له:ما أنصفناك أكلنا شبيبتك وضيعناك في شيخوختك ، وأجرى عليه رزقا مستمرا من بيت المال ، وقال لخادمه:ابحث عن هذا وضربائه ، وأجر عليهم من بيت المال .
والجزية بإجماع الفقهاء على اليهود والنصارى لنص هذه الآية ، وتفرض على المجوس لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) ( 1 ){[1222]} ولا تفرض بالإجماع على مشركي العرب ، لأنهم يخيرون بين القتل والإسلام ، حتى لا يكون في بلاد العرب دينان .
وقال أبو حنيفة:تفرض على كل عقد عقد الذمة ، سواء أكان وثنيا أم كان مجوسيا أم كان كتابيا ، لا فرق ؛ لأن الكفر كله ملة واحدة ، وأكثر المالكية على هذا الرأي ، وقال الشافعي:لا تفرض الجزية إلا على اليهود والنصارى والمجوس لورود النصوص .
ومقدار الجزية على حسب الاتفاق في الأمان ، والله تعالى أعلم .