قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 28 ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( 29 ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 30 ) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 31 ) .
إن البيت الحرام أول بيت بني للعبادة ، قال تعالى:{ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( 96 )} ( آل عمران ) ، وقد وضعه الله تعالى على يد إبراهيم أبي العرب ،{ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ( 67 )} ( آل عمران ) وقد مكث آمادا في أيدي المشركين الذين كانوا يعرفون الله ، ولكن لا يعبدونه ، وجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعيدهم إلى التوحيد ملة إبراهيم ، فحطم الأوثان . وكان حقا – وقد عاد البيت إلى ملة إبراهيم – أن يمنع منه المشركين ، ونريد أن نفسر الشرك هنا بعبادة غير الله ، ويدخل في هذا الشرك العام اليهود والنصارى ممن اتخذوا أشخاصا وعبدوهم وسموهم آلهة ، ولذا جاء ذكر اليهود والنصارى وراء المشركين بنحلتهم في ادعاء النبوة لعزير ، والمسيح ، وأن قتالهم كقتال الشرك ، واقتلاعه من الجزيرة العربية ، حتى لا يبقى فيها إلا عبادة الله سبحانه وتعالى ، فتكون أرض التوحيد ، كما كانت عندما بنى إبراهيم الكعبة ، إذ كانت الوثنية تسيطر فيما حولها ، وإبراهيم ينادي بالتوحيد في ربوعها .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وقرئ بكسر النون وسكون الجيم ، وقرئ بفتح النون ، وكسر الجيم ك ( كبد ) ، وقرئ بفتحهما نجس ( 1 ){[1221]} .
والنجاسة هنا نجاسة معنوية لما امتلأت قلوبهم بالشرك ، وجوارحهم بعبادة غير الله تعالى ، من أحجار وأشخاص ، ومن التابعين من قال:إنهم أنجاس العين كالخنازير ، ولكن نجس العين يكون بأصل التكوين والخلق ، وهؤلاء لم يخلقوا أنجاسا ، ولكن خلقوا على الفطرة حنفاء ، ولكن انحرفوا تقليدا لآبائهم ، أو إتباعا لأهوائهم ، فكانت النجاسة أمرا عارضا ، وما يكون أمرا عارضا يكون قابلا للتغيير إذا رجعوا فلا يكون أمرا ذاتيا كنجاسة الخنازير ، ولذا قال الأئمة أصحاب المذاهب:إن النجاسة نجاسة الشرك ، فمصافحتهم تجوز ، ومبايعتهم على الإيمان تجوز ، وغير ذلك من الملامسات الجسدية .
وقوله تعالى:{ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} ( الفاء ) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ لأنهم إذا كانوا أنجاسا بشركهم لا يصح أن يدخلوا المسجد الحرام ، و ( لا ) هنا ناهية داخلة على فعل للغائب ؛ فهي دالة على نهي المؤمنين عن أن يدخلوهم المسجد الحرام ، وأن يمنعوهم منعا باتا قاطعا ، وعبر بالغيبة مبالغة في النهي ، كأنهم نفذوا ، وأخبر عنهم بأنهم لم يدخلوهم ، وعبر في النهي بقوله تعالى:{ فلا يقربوا} بدل ( لا يدخلوا ) كمبالغة في النهي عن الدخول ، وللدلالة على أنه يجب تطهير ما حول المسجد من الشرك والمشركين ، وإذا كانوا لا يقربون المسجد الحرام ، فإنهم بالأولى لا يحجون ولا يعتمرون كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وقد كانوا يتولون سقاية الحجيج ، وسدانة البيت ، فمنعوا من ذلك ومن كانوا يتولون السقاية والسدانة ، وبيدهم مفاتيح البيت في الجاهلية بقيت في أيديهم بعد أن أسلموا ، فتولوها مسلمين غير مشركين بالله تعالى .
وإن النهي عن دخول المسجد الحرام يدل على حرمة دخوله بالنص ، وعلى حرمة دخول غيره ممن المساجد بالقياس عليه ، وبالنص المشير إلى ذلك بقوله:{ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ( 36 ) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ( 37 )} ( النور ) .
وإن رفعة المساجد في الآية الكريمة تومئ إلى ألا يدخلها من يشرك بالله أحجارا أو أشخاصا ، أوصافهم تتنافى مع أوصاف الذين يسبحون فيها بالغدو والآصال .
ولقد كان حجيج المشركين من شتى البلاد العربية يوجدون رواجا ماديا بين أهل مكة ، كما قال تعالى عن إبراهيم:{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم . . . . . . . . . . . . . . . . ( 37 )} ( إبراهيم ) ، فإذا منع المشركون حرم سكان مكة ، وهم المسلمون بعد الفتح من ذلك الوفد الذي يجيء إليه ، ولذا قال تعالى:{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} العيلة:الفقر إذا حرموا من أرفاق المشركين ومتاجرهم ، وقد قدر الله خوفهم من الفقراء ، أو قلة المال إذا منع المشركون من الحج وقصد بيت الله الحرام فقال:{ وَإِنْ خِفْتُمْ} وعبر للدلالة على أن تقدير الخوف مشكوك فيه منهم ؛ لأن الإيمان يجعلهم يطمئنون ولا يخافون ، ومع ذلك طمأنهم الله تعالى فأكد أنه سيغنيهم الله من فضله إن شاء ، ونشير هنا إلى أمرين:
أولهما – أن قوله تعالى:{ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} ( الفاء ) فيها في جواب الشرط ، و ( سوف ) لتأكيد وقوع الإغناء إن شاء الله تعالى في المستقبل ، فالسين وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل .
ثانيهما – التعبير بقوله تعالى:{ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} فذكر الفضل منسوبا إلى الله تعالى فيه إشارة إلى أنهم لا يرزقونكم بل الرزاق ذو القوة المتين هو الله الذي يرزقكم من فضله ، وقوله:{ إِن شَاء} بالتعليق على مشيئته سبحانه وتعالى فيه إشارة إلى:أولا بأن ذلك بمشيئته سبحانه إذا اتخذوا الأسباب ، وإن ذلك حسب حكمته ؛ يغنيهم إن لم يطغهم الغنى ، ويحرمهم إن كان الحرمان يفطم نفوسهم ، ويقوي إرادتهم ويعودهم الصبر ، والصبر عزيمة الأمور .
ولذا ختم الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته:{ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في الجملة تأكيد بالجملة الاسمية ، وب ( إن ) وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة الذي تتصف ذاته الكريمة بكل كمال وجلال ، وفي هذا التصدير دلالة على صدق ما وعد ، و{ عليم} يعلم كل شيء وما تعلمون وما لا تعلمون ، و{ حَكِيمٌ} ويدبر الوجود بمقتضى حكمته .
وقد أنجز الله تعالى ما وعد ، فقد أغنى الله تعالى أهل مكة ومن حولهم بالجزية والخراج ، وإسلام أهل اليمن ، وكان ذلك عقب الفتح ، فجاءهم الحجيج بأرفقهم ، مسلمين غير مشركين ، وما حرموا من خير كان يجيء إليهم ، بل استمر ومعه زيادة وهو يجيء طيبا من أطهار ، وأرسل عليه السماء مدرارا ، فأنبت الزرع وأثمر الشجر ، وأتت الأنعام بالخير .