ولقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لمن يشاء من عباده عساهم بعد أن رأوا أن أوثانهم لا تضر ولا تنفع ، وبعد أن عركتهم الحرب وهزموا فيها ، وغنمت أموالهم وصاروا في رحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي من رحمة الله تعالى فعساهم يهتدون ، ولذا قال تعالى:{ ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 27 )} .
{ ثم} هنا للبعد بين كفر عنيف ، وتوبة ضارعة راجية ،{ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء} أي يرجع على عباده بالتوبة ، والإقلاع عن الشرك والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى .{ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد بيان أنهم لم يغنهم غرورهم وانهزامهم هزيمة منكرة وسبى نسائهم وأموالهم ، وكرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه يروى أنهم جاءوا أو جاء كبراؤهم بعد ذلك مستسلمين يريدون سباياهم وأموالهم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فرق بعض السبايا أو كلها في المقاتلين من المسلمين .
جاء ناس منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعوه على الإسلام ، وقالوا:يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس ، وقد سبى أهلونا وأولادنا ، وأخذت أموالنا ، وكان السبى يومئذ يعدون بالألوف فقام النبي الكريم الرءوف برحمة من رب العالمين ، فقال:( إن عندي ما ترون ، إن خير القول أصدقه:اختاروا إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم ) . قالوا:ما كنا نعدل بالأحساب شيئا .
فقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه وقال لهم:( إن هؤلاء جاءوا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان عنده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ، ومن لا فليعطينا وليكن فرضا علينا ، حتى نصيب شيئا ، فنعطيه مكانه ) ، قالوا:رضينا وسلمنا .
فقال عليه الصلاة والسلام:( إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ) ، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا ( 1 ){[1219]} .
وهذا الخبر وقبله الآية الكريمة يدل على أمور:
أولها – أن المغرور إذ هزم ، وتبين أن غروره لم يجده شيئا ، وأنه ضعيف أمام الحق ارعوى ، وتغير تفكيره إذ تغيرت حاله من غرور نفسي إلى اقتناع بأن أوهامه باطلة ، فيتجه إلى الحق ، لقد كان أهل الطائف من ثقيف وهوازن أشد الناس اغترارا بقوتهم ، ومالهم ، وكانت فيهم غلظة وجفوة دون غيرهم من العرب فلما عضتهم الحرب فغروا في أمرهم مسترشدين .
ثانيها – أن الذين اقتنعوا بالحق وأعلنوه منضمين إليه ناس منهم ، والكثيرون استمروا في شماسهم حتى أقنعهم إخوانهم ( 1 ){[1220]} .
ثالثها – رفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورغبته في الحرية ، لأنه نبي الحرية فأعطاهم سباياهم سمحا كريما .
رابعها – أن الرفق يغير القلوب ، ولو كانت أشد الناس شماسا وغلظة وقسوة ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أرفق الناس ، وبرفقه جدب إلى الإيمان قلوبا غليظة ،{. . . . . . . . . . . . . . . ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . . . . . . . . . . ( 159 )} ( آل عمران ) ، وختم الله تعالى الآية بقوله:{ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي أنه كثير المغفرة كثير الرحمة سبحانه وتعالى .