{ يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}
استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله:{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله}[ التوبة: 17] الآية ،جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلّة أخرى تقتضي إبعادهم عنه: وهي أنّهم نجس ،فقد علّل فيما مضى بأنّهم شاهدون على أنفسهم بالكُفر ،فليسوا أهلاً لتعمير المسجد المبني للتوحيد ،وعلّل هنا بأنّهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته .
و{ نجس} صفة مشبهة ،اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له ،وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك ،فعلمنا أنّها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية .
والنجاسة المعنوية: هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقّراً متجنَّباً من الناس فلا يكون أهلاً لفضل ما دام متلبّساً بالصفة التي جعلته كذلك ،فالمشرك نجَس لأجل عقيدة إشراكه ،وقد يكون جسده نظيفاً مطيّباً لا يستقذر ،وقد يكون مع ذلك مستقذرَ الجسد ملطخاً بالنجاسات لأنّ دينه لا يطلب منه التطهّر ،ولكن تنظّفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم .والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير ،ولا شكّ أنّ خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات ،ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعاً عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسّيّة لإزالة خباثة نفسه ،وإنّ طهارة الحدث لقريب من هذا .
وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام ،أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا .
والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة ،فقد حضر المشركون موسم الحجّ فيه وأعلن لهم فيه أنّهم لا يعودون إلى الحجّ بعد ذلك العام ،وإنّما أمهلوا إلى بقية العام لأنّهم قد حصَلوا في الموسم ،والرجوع إلى آفاقهم متفاوت « فأريد من العام موسم الحجّ ،وإلاّ فإنّ نهاية العام بانسلاخ ذي الحجّة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى:{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}[ التوبة: 2] .
وإضافة ( العام ) إلى ضمير ( هم ) لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب:
فإن كان أعجبكم عامكم *** فعودوا إلى مصر في القابل
وصيغة الحصر في قوله:{ إنما المشركون نجس} لإفادة نفي التردّد في اعتبارهم نجساً ،فهو للمبالغة في اتّصافهم بالنجاسة حتّى كأنّهم لا وصف لهم إلاّ النجسية .
ووصف ( العام ) باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه .
وقوله:{ فلا يقربوا المسجد} ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام .ومواجهةُ المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام .جعل النهي عن صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جُعلوا مكلّفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب: « لا أرينّك ههنا » فليس النهي للمشركين على ظاهره .
والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأنّ مناسك الحجّ كلّها تتقدّمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك ،ولذلك لمّا نزلت « براءة » أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينادَى في الموسم أن لا يحجّ بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر .فدلّ على أنّ النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحجّ .ولولا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
عطف على جملة النهي .والمقصود من هذه الجملة: وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحجّ فينفقون ويهدُون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها ،وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين .
والعَيْلة: الاحتياج والفقر أي إنْ خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائِل كثيرة من الحجّ فإنّ الله سيغنيكم عن ذلك .وقد أغناهم الله بأن هَدى للإسلام أهل تَبَالَة وجُرَش من بلاد اليمن ،فأسلموا عقب ذلك ،وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكّة الطعام والمِيرة ،وأسلم أيضاً أهل جُدَّة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها ،فحملوا الطعام إلى مكة ،وأسلم أهل صنعاء من اليمن ،وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها .
وقوله:{ إن شاء} يفتح لهم باب الرجاء مع التضرّع إلى الله في تحقيق وعده لأنّه يفعل ما يشاء .
وقوله:{ إن الله عليم حكيم} تعليل لقوله:{ وإن خفتم عيلة} أي أنّ الله يغنيكم لأنّه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائِل ،فلمّا منعكم من تمكينهم من الحجّ لم يكن تاركاً منفعتكم فقَدر غناكم عنهم بوسائل أخرى عَلِمَها وأحكم تدبيرها .