{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 30 )} .
( عزير ) هذا كاهن من كهنة اليهود ظهر بعد أن دك أرضهم وشتت شملهم ( بختنصر ) وهو رأس القوم الأشداء الذين جاسوا خلال الديار ، والذين قال الله تعالى فيهم وفي بني إسرائيل:{ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 )} ( الإسراء ) .
وقد قال القرطبي في تفسيره:إنهم لم يكونوا جميعا يذكرون أنه ابن الله ، ولكن شاع القول بينهم بأنه ابن الله في عصره ، ولم يستنكروه ، فكان القول ، كان قولهم أو على الأقل قول مجمعهم ، وقال إنه لا يوجد يهودي يقول ذلك في عصره ، ولكن الزمخشري يقول في الكشاف:( الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم ، فما أنكروا وما كذبوا ، مع تهالكهم على التكذيب ) .
ولقد روى السدي كلاما يقارب ما جاء في التوراة ، لقد قال الحافظ ابن كثير:( ذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك ( أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزير يبكي على بني إسرائيل ، وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه ، فبينما هم ذات يوم ، إذ مر على جبانة وإذا أمرأه تبكي عند قبر ، وهي تقول:وامطمعاه ، واكاسياه ، فقال لها:ويحك من كان يطعمك قبل هذا ؟ قالت:الله ، قال:فإن الله حي لا يموت ، قالت:يا عزير ، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال:الله ؟ قالت:فلم تبكي عليهم ؟ ، فعلم أنه شيء وعظ به ، ثم قيل له:اذهب إلى نهر كذا فاغتسل فيه ، وصل هناك فإنك ستلقى هناك شيخا ، فما أطعمك فكله ، فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ قال:افتح فمك ، ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ثلاث مرات ، فرجع عزير ، وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال:يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة ، فقالوا:يا عزير ما كنت كذابا ، فعمد وبط على إصبع من أصابعه وكتب التوراة بإصبعه كلها ، فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء وأخبروا بشأن عزير فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال ، وقابلوه بها فوجدوا ما جاء به صحيحا ، فقال بعضهم جهلتهم:إنما صنع هذا لأنه ابن الله .
وقد جاء في شأن عزير كلاما يشبه هذا في الإصحاح الثامن والتاسع ، والعاشر ، وإن لم يصرح فيه بأنه الله ، ولعل ذلك مما جرى فيه التغيير ، على أن نقول إنه باطل محرف وغير محرف .
والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، قال بولس ، وهو أول من ادعى ألوهية المسيح ، ولكنه لم يقله أحد من الحواريين أصحاب الرسول إلا ما قال يوحنا في إنجيل منسوب إليه ، وقد كذبته دائرة المعارف الإنجليزية ، وقالت إن الذي كتبه في القرن الثالث تلميذ من تلامذة الأفلاطونية الحديثة .
واستمر سائدا بين المسيحيين أن المسيح ليس إلها ولا ابن إلله ، حتى جاء مجمع ( نيقية ) سنة325فقرر 318 أسقفا من 2048 ألوهية المسيح ، وفرض ذلك فرضا على المسيحيين ، وبذلك كان التغيير الذي ذكره القرآن ثم كان من بعد ذلك مجمع كهذا المجمع قرر ألوهية روح القدس ، فكانوا ثلاثة ، ولا شك أن ذلك كفر بل إشراك .
{ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ}أي أن ذلك القول قول تردده أفواههم بألسنتهم ، ولا يدركون له حقيقة يتصورونها ، فهم يرددون:الواحد ثلاثة ، والثلاثة واحد ، وإذا سألتهم عن مميزات كل واحد ، وكيف يجتمعون ، لم يحيروا جوابا إلا أن يقولوا هذه غيبيات يصدقها العقل الديني ، ولا يصدقها العقل والمنطق ، ويقولون الآن كما قال بعضهم في القرن الرابع المسيحي:إنها صفات ثلاثة للإله ، ولو سألتهم هل المسيح الذي ولدته أمه مريم من غير أب صفة ، وليس ذاتا كانت تمشي في الأسواق ، وتعظ ، وقتله – في زعمهم – الرومان وصلبوه ، وجعلتم الصليب ، قالوا:إن اللاهوت دخل الناسوت ، أو ولد اللاهوت والناسوت ، ولم يستطيعوا أن يصورا ما يقولون تصويرا تدركه العقول .
ومما يجب ذكره أنهم في الزوبعة التي أثارها قسطنطين الروماني الوثني الذي حول النصرانية إلى وثنية عندما أراد دخولها ، وذلك في مجمع نيقية آنف الذكر – وجد الأكثرون من بينهم يستنكرون الألوهية ، ولكن ما زالوا يعذبونهم ، ويطردونهم ، حتى وسدوا فكرة الألوهية توسيدا .
وممن أعلن معارضتهم نسطورس الذي أقر بالنبوة التي ادعاها بولس ، ولكنه قال إنها بنوة محبة ثم سادت بعد بين أتباع ( نيتشة ) عندما ساد التثليث فكرة الثلاثة سموها صفات ، وجاء بعض المسيحين في هذه الأيام لما أحسوا باستنكار العقول لعقيدتهم الباطلة ، واستحسن كلمة الصفات وهي الأخرى غير معقولة ، فذات المسيح المصلوب في زعمهم الذي ولد وعاش وقتل ودفن ثم قام من قبره لا يمكن أن تكون صفة ، إذ الصفة غير الذات .
وإن هذا التثليث هو بذاته اعتقاد الأفلاطونية الحديثة ، اختاره قسطنطين ، ومن تبعه دينا لهم ( 1 ){[1223]} .
وما أبلغ قوله تعالى في تصوير حالهم ، إذ يقول:{ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} ، فهو ليس إلا ألفاظا تردد من غير تصور لمعناها ، ويلقنونها لمن يدعونهم إليها ، ويستعينون بطرق الاستهواء المختلفة ، والخمور ، ليودعوها عقولا ضالة بهم .
وقال الله تعالى:{ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يضاهئون أي يشابهون قول الذين كفروا ، وذكر الله تعالى الذين كفروا ولم يبين من هم فقيل المشركون ، ولا شك أن وصف الذين كفروا ينطبق عليهم ، وهم يشابهونهم في أنهم أشركوا في العبادة غير الله ، كما أشرك أولئك الأوثان ، وإني أقول إن المشابهة ليست بعيدة الأركان بل ثابتة القرب واضحة ، ويدخل معهم أيضا عبدة الأوثان من غير العرب أيضا ، وهم البرهمية ، فهم قالوا إن للإله ابنا ، فالبراهمة قالوا إن كرشنة ابن لبراهما ، وقال البوذيون:إن بوذا ابن للإله ، كما قال النصارى ، ويظهر أن موجة من ادعاء البنوة كانت سائدة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح أخذت منها وثنية النصارى في القرن الرابع مع الأفلاطونية الحديثة عقيدتها الباطلة ، ولعل الأفلاطونية الحديثة ذاتها قد أخذت من الهنود ، فقد ثبت أن كبيرها ذهب إلى الهند ، وعاد بعقيدته( 1 ){[1224]} .
{ قَاتَلَهُمُ اللّهُ} ، قيل إنها كلمة تعجب كانت تجرى على ألسنة العرب ، وقيل إنها للعن مع التعجب ، وقد خطر لي أن تكون من القتال ، أي أنهم بهذا الإفك الذي لا يعلمون ، قد أعلنوا حربا على الله يقاتلهم وسيكون له النصر عليهم ، ثم قال تعالت كلماته:{ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصدفون عن الحق إلى الضلال الذي لا يفهمونه ولم يفهموه ولم يعقلوه .