التّفسير
شرك أهل الكتاب:
كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإِلغاء عهودهم وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إِلى أهل الكتاب وقد حدد الإِسلام لهم شروطاً ليعيشوا بسلام مع المسلمين ،فإنّ لم يفوا بها كان على المسلمين أن يقاتلوهم .
وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين ،ولا سيما اليهود والنصارى منهم ،ليتّضح أنّه لو كان بعض التشدد في معاملتهم ،فإنّما هو لانحرافهم عن التوحيد ،وميلهم إِلى نوع من الشرك في العقيدة ،ونوع من الشرك في العبادة .
فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: ( وقالت اليهود عزيزٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) .
بحوث
1من هُوَ عزيرٌ ؟!
«عزير » في لغة العرب هو «عزرا » في لغة اليهود ،ولمّا كانت العرب تغيّر في بعض الكلمات التي تردها من لغات أجنبية وتجري على لسانها ،وذلك كما هي الحال في إِظهار المحبّة خاصّة فتصغر الكلمة ،فصغرت عزرا إِلى عُزير ،كما بُدلت كلمة يسوع العبرية إِلى عيسى في العربية ،ويوحنا إِلى يحيى{[1611]} .
وعلى كل حال ،فإن عزيراًأو عزراله مكانة خاصّة في تاريخ اليهود ،حتى أن بعضهم زعم أنّه واضع حجر الأساس لأُمّة اليهود باني مجدهم وفي الواقع فإنّ له خدمةً كبرى لدينهم ،لأنّ بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميراً في واقعته المشهورة ،وجعل مُدُنَهم ،تحت سيطرة جنوده فأبادوها ،وهدموا معابدهم ،وأحرقوا توراتهم ،وقتلوا رجالهم ،وسبوا نساءهم ،وأسروا أطفالهم ،وجيء بهم إِلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن .
ولما فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا ،وكان من أكابر اليهود ،فاستشفعه في اليهود فشفّعه فيهم ،فرجعوا إِلى ديارهم وكتب لهم التّوراةممّا بقي في ذهنه من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدّثوا بهمن جديد .
ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام ،ويعدّونه منقذهم ومحيي شريعتهم{[1612]} .
وكان هذا الأمر سبباً أن تلقبه جماعة منهم ب «ابن الله » غير أنّه يستفاد من بعض الرّواياتكما في الإِحتجاج للطبرسيأنّهم أطلقوا هذا اللقب احتراماً له لا على نحو الحقيقة .
ولكنّنا نقرأ في الرّواية ذاتها أنّ النّبي سألهم بما مؤدّاه ( إذا كنتم تُجلّون عزيراً وتكرمونه لخدماته العظمى وتطلقَون عليه هذا الاسم ،فعلامَ لا تسمّون موسى وهو أعظم عندكم من عزير بهذا الاسم ؟فلم يجدوا للمسألة جواباً وأطرقوا برؤوسهم ){[1613]} .
ومهما يكن من أمر فهذه التسمية كانت أكبر من موضوع الإِجلال والاحترام في أذهان جماعة منهم ،وما هو مألوف عند العامّة أنّهم يحملون هذا المفهوم على حقيقته ،ويزعمون أنّه ابن الله حقّاً ،لأنّه خلصهم من الدمار والضياع ورفع رؤوسهم بكتابة التوراة من جديد .
وبالطبع فهذا الاعتقاد لم يكن سائداً عند جميع اليهود ،إلاّ أنّه يستفاد أنّ هذا التصّور أو الاعتقاد كان سائداً عند جماعة منهم ،ولا سيما في عصر النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،والدليل على ذلك أنّ أحداً من كتب التاريخ ،لم يذكر بأنّهم عندما سمعوا الآية آنفة الذكر احتجوا على النّبي أو أنكروا هذا القول «ولو كان لبان » .
وممّا قلناه يمكن الإِجابة على السؤال التّالي: أنّه ليس بين اليهود في عصرنا الحاضر من يدعي أنّ عزيراً ابن الله ولا من يعتقد بهذا الاعتقاد ،فعلام نسب
القرآن هذا القول إِليهم ؟!
وتوضيح ذلك ،أنّه لا يلزم أن يكون لجميع اليهود مثل هذا الاعتقاد ،إِذ يكفي هذا القدر المسلم به ،وهو أنّه في عصر نزول الآيات على النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان في اليهود من يعتقد بهذا الاعتقاد ،والدليل على ذلك كما نوّهنا ،هو أنّه لم ينكر أيّ منهم ذلك على النّبي والشيء الوحيد الذي صدر منهموفقاً لبعض الرّواياتأنّهم قالوا: إِنّ هذا اللقب «ابن الله » إِنّما هو لاحترام عزير ،وقد عجزوا عن جواب لمّا سألهم وأشكل عليهم: لم لا تجعلون هذا اللقب إِذاً لنبيّكم موسى( عليه السلام ) ؟!
وعلى كل حال فمتى ما نسب قول أو اعتقاد إِلى قوم ما ،فلا يلزم أن يكون الجميع قد اتفّقوا على ذلك ،بل يكفي أن يكون فيهم جماعة ملحوظة تذهب إِلى ذلك .
2لم يكن المسيحُ ابن اللهِ
لا ريب أن المسيحيين يعتقدون أن عيسى هو الابن الحقيقي لله ،ولا يطلقون هذا الاسم إِكراماً وتشريفاً له ،بل على نحو المعنى الواقعي له ،وهم يصرّحون في كتبهم أن إِطلاق هذا الاسم على غير المسيح بالمعنى الواقعي غير جائز ،ولاشك أنّ هذا من بدع النصارى ،والمسيح لم يدّعِ مثل هذا الإِدعاء أبداً ،وإِنّما كان يقول: بأنه عبدٌّ لله ،ولا معنى أساساً لأن ننسب علاقة الأبوة والبنوة الخاصّة بعالم المادة وعالم الممكنات بين الله وعباده أبداً .
3اقتباس هذه الخرافات
يقول القرآن المجيد في الآية محل البحث: أنّهمأي اليهود والنصارىيضاهئونأي يُشبهون بانحرافاتهمالذين كفروا والمشركين .
وهذا التعبير يشير إِلى أنّهم مقلّدون إِذ كانوا يعتقدون بأنّ بعض الآلهة هو إِله الأب ،وبعضها إِله الابن ،وحتى أنّ بعضهم كان يعتقد بأنّ هناك إِله الأُم ،وإِله الزوج ،وقد لوحظت مثل هذه الأفكار في جذور عقائد المشركين في الهند أو الصين أو مصر القديمة ثمّ تسرّبت إِلى اليهود والنصارى .
وفي العصر الحاضر خَطَر عند بعض المحقّقين أن يوازن ويقارن بين ما في العهدين «التوراة والإِنجيل وما يرتبط بهما » وبين عقائد البوذيين والبرهمائيين ،فاستنتجوا أن كثيراً من معارف الإِنجيل والتوراة تتطابق مع خرافات البوذيين والبرهمائيين تطابقاً ملحوظاً ،حتى أنّ بعض الحكايات والقصص الموجودة في الإِنجيل هي الحكايات والقصص ذاتها الموجودة في الديانة البوذائية والبرهمائية .
وإِذا كان المفكرون توصّلوا اليوم إِلى مثل هذه الحقيقة ،فإنّ القرآن أشار إِليها قبل أربعة عشر قرناً في الآية محل البحث .
4ما هو معنى ( قاتلهم الله )
جملة وإِن كان معناها في الأصل أنّ الله مقاتلٌ إيّاهم وما إِلى ذلك ،لكن كما يقول الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس ،إِن هذه الجملة كناية عن اللعنة أي أنّ الله أبعدهم عن رحمته ،فهو دعاء عليهم .