وفي الآية التالية إِشارة إِلى شركهم العملي في قبال الشرك الاعتقادي ،أو بعبارة أُخرى إشارة إِلى شركهم في العبادة ،إِذ تقول الآية: ( اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ) .
«الأحبار » جمع حبر ،ومعناه العالم ،و«الرهبان » جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة .
وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم ،ولم يصلوا ولم يصوموا لهم ،ولم يعبدوهم أبداً ،لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط ،بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الأحكام المخالفة لحكم الله من قبلهم ،فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى بالعبادة .
وهذا المعنى واردٌ في رواية عن الإِمامين الباقر والصادق( عليهما السلام ) إِذ قالا: «أمّا والله ما صاموا لهم ولا صلّوا ،ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالا ،فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون »{[1614]} .
وفي حديث آخر ،أنّ عديّ بن حاتم قال: وفدت على رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان في رقبتي صليب من الذّهب ،فقال لي( صلى الله عليه وآله وسلم ): يا عدي ألق هذا الصنم عن رقبتك ،ففعلت ذلك ،ثمّ دنوت منه فسمعته يتلو الآية ( اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ) فلمّا أتم الآية قلت له: نحن لا نتّخذ أئمتنا أرباباً أبداً ،فقال: «ألم يحرموا حلال الله ويحلّوا حرامه فتتبعوهم ؟فقلتُ: بلى ،فقال: فهذه عبادتهم »{[1615]} .
والدليل على هذا الموضوع واضح ،لأنّ التقنين خاص بالله ،وليس لأحد سواه أن يحل أو يحرم للناس ،أو يجعل قانوناً ،والشيء الوحيد الذي يستطيع الإِنسان أن يفعله هو اكتشاف قوانين الله وتطبيقها على مصاديقها .
فبناءً على ذلك لو أقدم أحد على وضع قانون يخالف قانون الله ،وقبله إِنسان آخر دون قيد أو اعتراض او استفسار فقد عبد غير الله ،وهذا بنفسه نوع من أنواع الشرك العملي ،وبتعبير آخر: هو عبادة غير الله .
ويظهر من القرائن أنّ اليهود والنصارى يرون مثل هذا الاختيار لزعمائهم ،بحيث لهم أن يغيّروا ما يرونه صالحاً بحسب نظرهم ،وما يزال بعض المسيحيين يطلب العفو من القسيس فيقول له القسّ ،عفوت عنك !وكانمنذ زمنموضوع صكوك الغفران رائجاً .
وهناك لطيفة أُخرى ينبغي الالتفات إِليها ،وهي أنّه لما كانت عبادة المسيحيين لرهبانهم تختلف عن عبادة اليهود لأحبارهم ،فالمسيحيون يرون المسيح ابن الله واقعاً واليهود يطيعون أحبارهم دون قيد أو شرط ،لذا فإنّ الآية أشارت إِلى عبادة كل منهما ،فقالت: ( اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) .
ثمّ فصلت المسيح على حدة فقالت: ( والمسيح ابن مريم ) .
وهذا التعبير يدلّ على منتهى الدقة في القرآن .
وفي ختام الآية تأكيد على هذه المسألة ،وهي أن جميع هذه العبادات للبشر بدعة ،وهي من العبادات الموضوعة ( وما أمروا إلاّ ليعبدوا إِلهاً واحداً لا إِله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون ) .
درس تعليمي:
إِنّ القرآن المجيد يعلّم أتباعه في الآيةمحل البحثدرساً قيّماً جدّاً ،ويبيّن واحداً من أبرز مفاهيم التوحيد فيها ،إِذ يقول: لا يحقُّ لأيّ مسلم طاعةُ إِنسان آخر دون قيد أو شرط ،لأنّ هذا الأمر مساو لعبادته ،وجميع الطاعات يجب أن تكون في إطار طاعة الله ،واِنّما يصح اتباع الإِنسان نظيره متى كانت قوانينه غير مخالفة لقوانين الله ،أيّاً كان ذلك الإِنسان وفي أية مكانة أو منزلة .لأنّ الطاعة بلا قيد أو شرط مساوية للعبادة ،أو هي شكل من أشكال الشرك والعبودية ،إلاّ أنّهيا للأسفبُلي المسلمونلبُعد المسافة الزمنيةبالابتعاد عن تعاليم هذا الدستور الإِسلامي المهم ،وإقامة الأصنام البشرية ،فتفرقوا وتغلب عليهم المستعمرون والمستثمرون ،وإذا لم تتكسر هذه الأصنام البشرية فلا ينبغي أن ننتظر زوال هذه البلايا وسدّ الثغرات .
وأساساً فإنّ هذا النوع من الشرك أو العبادة الوثنية أخطر بكثير من عبادة الأصنام والأحجار في زمان الجاهلية ،والسجود لها ،لأنّ تلك الأصنام والأحجار ليس فيها روح حتى تستعمر عبدتها ،إلاّ أنّ الأصنام البشرية وبسبب غرورهم وعدوانهم يجرّون أتباعهم إِلى الوبال والذلة والشقاء والانحطاط .