/م30
فقال عز وجل:
{ وقالت اليهود عزير ابن الله} الخ نبدأ في تفسير هذه الآية بذكر شيء من تاريخ عزير هذا ومكانته عند القوم ، ثم ببيان من سموه ابن الله من اليهود ، ونقفي على ذلك بذكر قول النصارى:المسيح ابن الله ، وتفنيده ، ثم من قال بمثل هذا القول من الوثنيين القدماء ، -وهو من معجزات القرآن- وقد تقدم هذا مفصلا في تفسير سورتي النساء والمائدة .
عزير هذا هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا ، والظاهر أن يهود العرب هم الذين صغروا بالصيغة العربية للتحبيب وصرفوه ، وعنهم أخذ المسلمون ، والتصرف في أسماء الأعلام المنقولة من لغة إلى أخرى معروف عند جميع الأمم ، حتى إن اسم يسوع قلبته العرب فقالت عيسى .وهو - كما في أول الفصل السابع من السفر المعروف باسمه- عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا ، وساق نسبه إلى العازار بن هارون( ع ) .
جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية( طبعة 1903 ) أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده ، وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة«وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة » لو لم يكن جاء بها موسى ( التلمود 21 ب ) ، فقد كانت نسيت ، ولكن عزرا أعادها أو أحياها .ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات المعجزات كما رأوها في عهد موسى اه .وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية ، وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها ، وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده .
وقال الدكتور جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس:عزرا( عون ) كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة ملك( ارتحششتا )الطويل الباع ، وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عددا وافرا من الشعب إلى أورشليم نحو سنة 457 ق . م . ( عزرا ص 7 ) وكانت مدة السفر أربعة أشهر .
ثم قال:وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعا مهما يقابل بموضع موسى وإيليا ، ويقولون أنه أسس المجمع الكبير ، وأنه جمع أسفار الكتاب المقدس ، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة ، وأنه ألف أسفار الأيام وعزرا ونحميا .
ثم قال:ولغة سفر عزرا من ص 4:86:19 كلدانية ، وكذلك ص 7:127 ، وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية اه .
وأقول:إن المشهور عند مؤرخي الأمم حتى أهل الكتاب منهم أن التوراة التي كتبها موسى( ع ) ، ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه ( تث31:25 و26 ) قد فقدت قبل عهد سليمان( ع ) ، فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر ، كما تراه في سفر الملوك الأول ، وأن ( عزرا ) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها .ويقول أهل الكتاب:إن ( عزرا ) كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله ، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم ، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن ، حتى من تآليفهم كذخيرة الألباب للكاثوليك وأصله فرنسي ، قد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى ، ومنها قوله:( جاء في سفر عزرا 4 ف14 عد 21 أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد نبوخذ نصر حيث قال:«إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت »اه .ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار ، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون .ولذلك ترى ثرثوليانوس والقديس إيريناوس والقديس إيرونيموس والقديس يوحنا الذهبي والقديس باسيليوس وغيرهم يدعون عزرا مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود )اه .
ثم أجاب المؤلف عن هذا الاعتراض بأن السفر الرابع من سفر عزرا( كذا ) ليس بقانوني ، وأن نسخ الكتاب المقدس لم تكن كلها محفوظة في الهيكل أو في أورشليم .وأن الآباء القديسين الذين استشهد المعترضون بأقوالهم إنما يؤخذ بتعليمهم لا برأيهم ، قال:«يستحيل أن يكون رأيهم غير التعليمي غير مصيب ، إلا أن الأظهر أنهم إذ سموا عزرا مرمم الأسفار المقدسة إنما أرادوا أن هذا النبي بعد السبي البابلي جمع كل ما تمكن من جمعه من نسخ الكتاب المقدس وقابلها ، وجعل منها مجموعاً منقحا مجرداً عن الأغلاط التي كانت قد اندست فيه »اه .
ونقول:إن هذه الأجوبة تأويل لأقوال القديسين المذكورين لا تدل عليه ، ولا نسلم أن تعليمهم كان مخالفاً لرأيهم ، واحتمالات ودعاوى في أصل المسألة لا دليل عليها إذ لم ينقل أحد أنه كان يوجد قبل عزرا كتاب اسمه الكتاب المقدس ، ولا أن أسفار موسى كان يوجد منها نسخ متعددة ، وفي التاريخ أن ما كتبه عزرا منها قد فقد أيضاً ، وكان يوجد فيه الألوف من الألفاظ البابلية ، وعبارات كان عزرا يشك فيها ، وأغلاط كثيرة متفق عليها عند أهل الكتاب يتمحلون في الأجوبة عنها ، فنسخة عزرا ليست عين الشريعة التي كان كتبها موسى قطعاً .
وقد جاء في ص 167 من الجزء الأول من إظهار الحق طبعة الأستانة -بعد نقل نحو مما ذكر عن سفر عزرا وإحراق التوراة وجمع عزرا لها بإعانة روح القدس- ما نصه:
«وقال كليمنس اسكندريانوس:إن الكتب السماوية ضاعت فألهم عزرا أن يكتبها مرة أخرى .اه وقال ترتولين:المشهور أن عزرا كتب مجموع الكتب بعد ما أغار أهل بابل بروشالم ؟ اه وقال تهيوفلكت:إن الكتب الإلهية انعدمت رأساً فأوجدها عزرا مرة أخرى بإلهام .اه وقال جان ملنركاتلك في الصفحة 115 من كتابه الذي طبع في بلدة دبي سنة 1843 «اتفق أهل العلم على أن نسخة التوراة الأصلية وكذا نسخ كتب العهد العتيق ضاعت من أيدي عسكر بخت نصر ، ولما ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة أنتيوكس انتهى كلامه بقدر الحاجة اه .
ثم إن صاحب إظهار الحق ذكر في بحث إثبات تحريف كتبهم ( ص 235 39 ) ما في تواريخهم المقدسة ( سفر الملوك وسفر الأيام ) من خبر ارتداد أكثر بني إسرائيل من آخر مدة سليمان الذي كان أول من ارتد وعبد الأوثان وبنى لها المعابد بزعمهم وولديه اللذين اقتسما ملكه فكان مملكتين:مملكة إسرائيل المؤلفة من عشرة أسباط ، ومملكة يهوذا المؤلفة من السبطين الآخرين ، وغلبت الوثنية وعبادة الأصنام عليهما معا ، وإن كانت على الأولى أغلب .وامتد ذلك زهاء أربعة قرون لم يعد للمملكتين فيها حاجة إلى التوراة إلى أن جلس ( يوشيا ) بن ( آمون ) على سرير السلطنة فتاب من الشرك ، وأراد إعادة دين موسى إلى الشعب ولكنه لم يجد نسخة من التوراة إلى سبع عشرة سنة من ملكه ؛ إذ ادعى حلقيا الكاهن في السنة الثامنة عشرة أنه وجد نسخة من شريعة موسى في بيت الرب ، ( ويقول صاحب قاموس الكتاب المقدس في هذه النسخة ربما كانت «سفر التثنية » وحده ) ، ويدعون أن العمل جرى على تلك النسخة مدة الثلاث عشرة سنة التي بقيت من ملكه ، وقد ارتد من بعده من الملوك ، وسلط الله على أولهم ملك مصر ، وعلى ثالثهم بخت نصر ، ولم تذكر نسخة الشريعة من بعده فلا يعلم أحد ما أصابها .
وأما ما كتبه عزرا فقد فُقد أيضاً في أثناء استيلاء أنطيوكس ملك سورية على أورشليم كما تقدم عنه ، وقد وضحه بقوله في ( ص 238 ج 1 ) فقال:
لما كتب عزرا عليه السلام كتب العهد العتيق مرة أخرى على زعمهم وقعت حادثة أخرى جاء ذكرها في الباب الأول للمكابيين هكذا:
«لما فتح انتيوكس ملك ملوك الإفرنج( كذا ) أورشليم أحرق جميع نسخ العهد العتيق التي حصلت له من أي مكان بعد ما قطعها ، وأمر أن من يوجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد العتيق أو يؤدي رسم الشريعة يقتل ، وكان تحقيق هذا الأمر في كل شهر ، فكان يقتل كل من وجد عنده نسخة من كتب العهد العتيق ، أو ثبت أنه أدى رسماً من رسوم الشريعة ، وتعدم تلك النسخة »اه ملخصا .
وذكر أن هذه الحادثة كانت سنة 161 ق . م .وامتدت إلى ثلاث سنين ونصف كما فصلت في تواريخهم وتاريخ يوسيفوس .قال:فانعدمت في هذه الحادثة جميع النسخ التي كتبها عزرا كما عرفت في الشاهد 16 من المقصد الأول من كلام جان ملنر كاتلك .ثم ذكر أنه في حادثة استيلاء الامبراطور تيطس الرومي على أورشليم وبلاد اليهود أتلفت نسخ كثيرة كانت عندهم وذلك بعد المسيح كما بينه يوسيفوس وغيره من المؤرخين .
نكتفي بهذا البيان هنا ، ولنا فيه غرضان:
أحدهما:أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم .
وثانيهما:أن هذا المستند واهي البيان متداعي الأركان .وهذا هو الذي حققه علماء أوروبا الأحرار ، فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابته للشريعة:أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط ؛ بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت ، وأعاد سبعين سفراً غير قانونية ( أبو كريف ) ، ثم قال كاتب الترجمة فيها:وإذ كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر ، فكتَّاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقاً ( انظر ص 14 ج 9 من الطبعة الرابعة عشرة سنة 1929 ) .
وجملة القول:إن اليهود كانوا وما زالوا يقدسون عزيراً هذا ، حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب ابن الله ، ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما ، أم بالمعنى الذي سيأتي قريبا عن فيلسوفهم ( فيلو ) ، وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى .وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم ، وهو مبني على القاعدة التي بيناها في تفسير بعض آيات سورة البقرة التي تحكي عنهم أقوالاً وأفعالاً مسندة إليهم في جملتهم ، وهي مما صدر عن بعضهم ، وهي أن المراد من هذا الأسلوب تقرير أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها العامة ، وأن ما يفعله بعض الفرق أو الجماعات أو الزعماء منها يكون له تأثير في جملتها ، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم ، وبينا في تفسير قوله تعالى:{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [ الأنفال:25] أن من سنن الاجتماع البشري أن المصائب والرزايا التي تحل بالأمم بفشو المفاسد والرذائل فيها لا تختص الذين تلبسوا بتلك المفاسد وحدهم ، كما أن الأوبئة التي تحدث بكثرة الأقذار في الشعب وغير ذلك من الإسراف في الشهوات تكون عامة أيضا .
وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة ، كالذين قال الله فيهم:{ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلَّت أيديهم} [ المائدة:64] ، والذين قال فيهم{ لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [ آل عمران:181] ردا على قوله تعالى:{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسناً} [ البقرة:245] ؟ ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا .
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا:كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله ؟ وإنما قالوا هو ابن الله من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التابوت فيهم ، فلما رأى الله تعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، ( وذكر الراوي حكاية إسرائيلية قال في آخرها أن عزيراً صلى ودعا الله أن يرد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فاستجاب له فصار يعلمهم إياه ، ثم نزل التابوت عليهم فعرضوا عليه ما علمهم عزير فوجدوه مثله ) .
فنحن نأخذ بما قاله ابن عباس رواية عمن جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وقالوا ما قالوا فإنه رواية عن شيء وقع في زمنه فأخبر عما رأى وسمع ، وأما ما حكاه من سبب قولهم فما هو إلا رواية عن بعضهم كذبوا فيه عليه أو على من حدثه به ، والظاهر أنه مما سمعه من كعب الأحبار ، إذ روى عنه كثيراً من الإسرائيليات ، فقد أخرج أبو الشيخ عن كعب أنه قال:دعا عزير ربه عزَّ وجلَّ أن يلقَّى التوراة كما أنزل على موسى عليه السلام في قلبه .فأنزلها الله تعالى عليه ، فبعد ذلك قالوا عزير ابن الله .
وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور روايات أخرى إسرائيلية خرافية في هذا المعنى منها ما رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس ، وملخصه أن الله سلط بختنصر على بني إسرائيل فحرق التوراة وخرب بيت المقدس ، وعزير يومئذ غلام ، فلحق بالجبال يتعبد فيها ، وأن الدنيا تمثلت له في صورة امرأة فأخبرته بأنه سينبع في مصلاه عين ماء وتنبت فيه شجرة فإذا شرب من العين وأكل من الثمرة جاءه ملكان ... ( إلى أن قال ) فجاء الملكان ومعهما قارورة فيها نور فأوجراه ما فيها فألهمه الله التوراة ! ! وروى ابن أبي حاتم هذه الخرافة عن السدي بأطول مما روي عن ابن عباس .وما ذكرنا هذا إلا لنبين للناس أنه من شر الخرافات الإسرائيلية التي كان يغش المسلمين بها كعب الأحبار وأمثاله مما ليس في كتب اليهود ، وقد راجت على أكثر المفسرين لعدم اطلاعهم على كتب العهد العتيق ، ولا سيما سفر الأيام الثاني وسفري عزرا ونحميا ، ولا على غيرها من كتبهم ، ولا على تاريخ يوسيفوس اليهودي وغيره من التواريخ .دع كتب أحرار الإفرنج ومؤرخيهم مما لم يكن في زمنهم .
ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود ، وقد كان ( فيلو ) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول:إن لله ابنا هو كلمته التي خلق بها الأشياء ، فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا:إن عزيراً ابن الله بهذا المعنى .
{ وقالت النصارى المسيح ابن الله} هذا القول كان يقوله القدماء منهم ، ويقصدون به معنى مجازياً كالمحبوب والمكرم ، ثم سرت إليهم فلسفة الهنود في ( كرنشا ) وغيرهم من قدماء الوثنيين ، ثم اتفقت عليه فرقهم المعروفة في هذه الأزمنة ، وعلى أنه حقيقة لا مجاز .وعلى أن ( ابن الله ) بمعنى( الله ) وبمعنى( روح القدس ) ؛ لأن هؤلاء الثلاثة عندهم واحد حقيقة لا مجازا ، هذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بتأثير الفلسفة الرومية ولكن بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون ، ويخالفه خلق كثير منهم أعظمهم شأنا الموحدون والعقليون .والكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتينية لا تعتد بنصرانيتهم ولا بدينهم ، وهاك خلاصة تاريخية في أطوار هذه العقيدة ، وهي ما في دائرة المعارف العربية للبستاني ، قال:
ثالوث Trinité –Y
كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت تعرف بالآب والابن والروح القدس ، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر ، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس ، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحا وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام ، وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني ، وانبثاق الأقنوم الثالث ، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة ، وصفاتهم المميزة وألقابهم ، ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس ، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث ، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت ، ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث ، بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد ، وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم:أحدهما:الآيات التي ذكر فيها الآب والابن والروح القدس معا .والآخر:التي ذكر فيها كل منهم على حدة ، والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر .
والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي ، وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين ، فإن ثيوفيلوس أسقف أنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة ثرياس باليونانية ، ثم كان ترتليانوس أول من استعمل كلمة ترينيتاس المرادفة لها ، ومعناها الثالوث .وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق ، وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية{[1531]} ، ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض ، والسابيليين الذين كانوا يعتقدون أن الآب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس ، والآريوسيين الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزلياً كالآب بل هو مخلوق منه قبل العالم ولذلك هو دون الآب وخاضع له ، والمكدونيين الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوماً .
وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد ، ومجمع القسطنطينية سنة 381 ، وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت ، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الآب ، وأن الروح القدس منبثق من الآب ، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضا .وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها ، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة .
وعبارة ( ومن الابن أيضا ) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية ، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أبقت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير ، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم ، حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل ، وقد أطلق سويد نبرغ الثالوث على أقنوم المسيح معلما بثالوث ، ولكن لا ثالوث الأقانيم ؛ بل ثالوث الأقنوم ، وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الآب ، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن ، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس ، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين .
وقد ذهب ( كنت ) إلى أن الآب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت:وهي القدرة والحكمة والمحبة ، أو على ثلاثة فواعل عليا:وهي الخلق والحفظ والضبط ، وقد حاول كل من هيجن وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساسا تخيلياً ، وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون ، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية ، وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين ، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابيليين على الخصوص اه .
وأقول:قد حدثت في هذا العهد مذاهب جديدة في النصرانية في أوروبا وأمريكة قرب ببعضها كثيرون من إصلاح الإسلام لها ، سيفضي هذا إلى رجوع السواد الأعظم إليه بعد تنظيم الدعاية الصحيحة له وتعميمها ، ونحن نبين هذه الأطوار في المنار في أوقاتها .ونعود الآن إلى الرد على قولهم المسيح ابن الله ؛ لأن هذا آخر موضع له في التفسير فنقول:
كنا بينا في تفسير سورة المائدة{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} [ المائدة:21] أن لقب «ابن الله » أطلق في كتب اليهود والنصارى على آدم كما تراه في نسب المسيح في آخر الفصل الثالث من إنجيل لوقا ، وهو«ابن شيث بن آدم ابن الله » وعلى يعقوب كما في الفصل الرابع من سفر الخروج «هكذا يقول الرب:إسرائيل ابني البكر » ، وعلى أفرايم كما في سفر أرميا«لأني صرت أبا وأفرايم هو بكري » ، وعلى داود«هو يدعوني أبي أنت إلهي وصخرة خلاصي* أنا أيضا أجعله بكرا أعلى من كل ملوك الأرض » ، وأنه أطلق أيضا على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين وسمي الله أبا لهم في مواضع كثيرة من كتب العهدين ، ويقابله إطلاق المسيح لقب«أولاد إبليس » على غير الصالحين ، وتسمية إبليس أباهم ، كما ترى في إنجيل يوحنا«أنتم تعملون أعمال أبيكم ، قالوا:إننا لم نولد من زنا لنا أب واحد وهو الله* فقال لهم يسوع لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني »إلى أن قال«أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا » وهنالك شواهد أخرى من استعمال كلمة ابن الله في الأفراد كسليمان عليه السلام وفي المؤمنين الصالحين وتسميتهم مولودين من الله تعالى وتسميته سبحانه أبا لهم .
وبينا أيضا أن هذا الاستعمال مجازي قطعاً ، لا يحتمل المعنى الحقيقي بحال من الأحوال ، ولكن النصارى قد خرجوا عن قوانين العقل واللغات بجعل إطلاق لفظ«ابن الله » على المسيح وحده حقيقيا وعلى غيره مجازياً ، ووعدنا بتوضيح ذلك في تفسير{ يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد} [ النساء:169] الآية من سورة النساء وكذا في مواضع من التفسير و( المنار ) ، ولعلنا ما وعدنا بإيضاحه إلا ونحن ذاهلون عن هذا . وكثرة الكلام في المحال لا تزيده إلا غموضا وإشكالا ، فالنصارى قد تحكموا في تفسير ( ابن الله ) وتفسير( الكلمة ) وتفسير( روح القدس ) وتفسير اسم الجلالة ( الله ) بما ينافي العقل ونصوص العهد القديم والعهد الجديد ، فجعلوها متعارضة متناقضة .كل ذلك لإدخال عقيدة قدماء الوثنيين من الهنود والمصريين واليونان على دين أنبياء بني إسرائيل المبني على أساس التوحيد المطلق ، ولكننا نأتي بخلاصة أخرى في الموضوع نرجو أن تكون أوضح وأظهر مما سبق ، وأدل على نوع من أنواع إعجاز القرآن ، وهو تحديد الحقائق فيما اختلف فيه أهل الكتاب من أمر دينهم ، مما كان مجهولاً لهم ولغيرهم من البشر ، كما وعد الله عزَّ وجلَّ في آيات منه ، كاختلافهم في المسيح نفسه ، وفي معنى اسم الله وكلمته وروحه أو روح القدس ، فنقول:
قال جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس:
الله:اسم خالق جميع الكائنات والحاكم الأعظم على جميع العوالم والمعطي كل المواهب الحسنة .والله«روح غير محدود ، أزلي غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله ، وجودته وحقه » وهو يظهر لنا بطرق متنوعة وأحوال مختلفة في أعماله وتدبير عنايته( روا:20 ) ، ولا سيما في الكتب المقدسة ، حيث يتجلى غاية التجلي في شخصيته وأعمال ابنه الوحيد المخلص يسوع المسيح .
ثم قال:
طبيعة الله:عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر( من 28:19 و20 كو 13:14 ) الله الآب ، والله الابن ، والله الروح القدس ، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن ، وإلى الابن الفدى ، وإلى الروح القدس التطهير .غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء .أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد ، وقد أشير إلى هذا الأمر في تك ص 1 حيث ذكر «الله » و«روح الله » ( قابل مز33:6 ويو 1:1 و3 ) ، والحكمة الإلهية المشخصة أم ص 8 تقابل «الكلمة » في ( يو ص 1 ) ، وربما تشير إلى الأقنوم الثاني .وتطلق نعوت القدير على كل أقنوم من هذه الأقانيم الثلاثة على حدته .
ثم قال:
وحدة الله:ظاهرة في العهد القديم أكثر منها في العهد الجديد ، والتثليث بين في العهد الجديد ، خفي في العهد القديم .والداعي الأعظم لهذا الأمر إنما هو إظهار لخطأ الشرك بالله ومنع عبادة الأوثان التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى قديما ، ففي تث 6:4 يدعى الله«رباً واحداً » ، وكان يدعى «الإله الحي » تمييزا له عن آلهة الوثنيين الكاذبة .والاعتقاد بأن الله واحد بين جداً في ديانة اليهود .
ثم قال:
ابن الله: د31:25 ابن الآلهةلقب من ألقاب القادي ، ولا يطلق على شخص آخر سواه إلا حيث يستفاد من القرينة أن المقصود بالملقب غير ابن الله الحقيقي .وقد تسمت الملائكة بني الله( أي38:7 ) ، وأطلق هذا الاسم على آدم( لو3:38 ) ؛ إذ أنه هو الشخص الأول المخلوق من الباري رأساً .وقد تسمى المؤمنون أبناء الله( رو 8:14 و2 كو 6:18 ) ، وذلك لأنهم أعضاء في عائلة الله الروحية .وأما إذا أريد بهذا اللقب المسيح فيذكر مع التفخيم والعظمة حتى أن القارئ يعرف القصد بكل سهولة .
وهذا اللقب يدل على طبيعة المسيح الإلهية ، كما أن القول بأنه«ابن الإنسان » يدل على طبيعته البشرية .والمسيح هو ابن الله الأزلي والابن الوحيد( قابل يو 180 و5:1926 و9:35:38 ومت 11:27 و16:16 و21:37 وآيات أخرى غير هذه في الرسائل ) ، ومع أن المسيح يأمرنا بأن ندعو الله«أبانا » ، فهو لا يدعوه كذلك إنما يدعوه«أبي » ، وذلك إيماء لما هنالك من الإلفة العظيمة ، والعلاقة الشديدة الكائنة بينهما مما تفوق علاقته كل علاقة بشرية .وإشارة إلى أننا نحن أولاده ليس على سبيل البنوة التي للمسيح ربنا ؛ بل من قبيل البنوة التي أنعم علينا بها بواسطة التبني والتجديد اه بحروفه .
أقول:إن ما لخصه صاحب هذا القاموس من عقيدة النصارى ، هو أوضح ما تعرف به هذه العقيدة بالاختصار المتوخى في هذا القاموس ، على غموضه وضعفه في نفسه ، وما يذكرونه في عامة كتبهم قلما يفهم المراد منه لما في عباراتها من التعقيد اللفظي والمعنوي في موضوع غير معقول في نفسه ، وفيما ذكره مؤاخذات كثيرة نذكر أهم ما يتعلق بموضوعنا هنا منها ، ولذلك نغض الطرف عما قاله في بيان المراد من اسم الجلالة ؛ لأننا نقلناه تمهيدا لما بعده ، فنقول:
1ما ذكره فيما سماه «طبيعة الله » لا يدل عليه لفظ الاسم الكريم ، ولا شيء من كتب الأنبياء في العهد القديم ، ولا مما جاء عن متقدميهم في سفر التكوين .فثبت بهذا أن هذه الطبيعة المدعاة لم تكن معروفة عند أنبياء أهل الكتاب قبل النصرانية التقليدية ، وهي أصل الدين فيها ، ونتيجة هذا أن هذه العقيدة مبتدعة بعدهم ، وهم برآء منها .
2إن ما أشار إليه من نص الإنجيل فيها لا يدل عليها ، وهو ما في إنجيل متى من قوله في آخره رواية عن المسيح عليه السلام 28 .19 «وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس » ، فهذا اللفظ لا يدل على أن هذه الأسماء الثلاثة عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، وأن كلاً منها عين الآخر ، وأنه يطلق عليه اسم ( الله ) الخالق لجميع الكائنات الخ ما ذكره في معنى اسمه عزَّ وجلَّ ، ولا على أنها تتقاسم الأعمال الإلهية على السواء كما ادعاه فيما سماه طبيعة الله .
وكذلك ما أشار إليه من رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس ، وهو قوله في آخرها «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعهم » ، على أننا نعتقد أن بولس هو واضع أساس الديانة النصرانية الحاضرة ، وجاء فيها بما لم يؤثر عن المسيح عليه السلام ، ولا عن تلاميذه الحواريين رضي الله عنهم .
3إن ما ذكر في كتب العهدين من استعمال ابن الله والروح القدس ينافي هذا المعنى ولا يتفق معه بوجه من الوجوه كما بيناه في تفسيرنا عند ذكرها في الآيات من سورتي آل عمران والنساء .وقد أشرنا إلى أهمها آنفا .
4إن ما أشار إليه من عبارة المزمور ( 33:6 ) ليس فيه أدنى إشارة إلى هذه الطبيعة المبتدعة في هذا التثليث ، وهذا نصها «بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها » ، وهو يزعم هنا أن المراد [ بكلمة الرب] المسيح ، تفسيرا لها برأي يوحنا في أول إنجيله ، وهذا المعنى للكلمة لم يكن معروفا لداود عليه السلام ولا لغيره من أنبياء اليهود ؛ بل هو معنى اخترعه الذي كتب إنجيل يوحنا ، والمرجح عند بعض المحققين أنه أحد تلاميذ بولس .وكان الدكتور جورج بوست كتب هذا الشاهد هنا قبل أن يكتب تفسير«الكلمة » في قاموسه ، وكأنه لما كتبه نسي ما كان كتبه هنا ، فإنه قال في الجزء الثاني منه ما نصه:يقصد بالكلمة السيد يسوع المسيح ، ولم ترد هذه الكلمة بهذا المعنى إلا في مؤلفات يوحنا اه .فكيف فسر بها عبارة المزمور إذاً ؟
وكذلك ما نقله عن رسالتي بولس إلى كولوسي وإلى العبرانيين لا يدل على ما ذكره ، ولو دل عليها لكان أحد دلائلنا على أن هذه العقيدة قد وضع بولس أساسها} إذ لم يعرفها أحد من أنبياء التوراة قبله عليه السلام ولا المسيح .
5قوله:إن مسألة التثليث غير واضحة في العهد القديم ، صوابه غير موجودة فيه ألبتة ، لا بالنص ولا بالظاهر ولا بالفحوى والإشارة الواضحة ، على أن هذه العقيدة عند النصارى هي أساس الدين أو ركنه الأعظم ، فلو كانت عقيدة إلهية موحى بها إلى الأنبياء لصرحوا كلهم بها تصريحاً لا يقبل التأويل ، كما صرحوا بالتوحيد الذي اعترف هو وغيره بأنه ظاهر[ وبين جداً] في العهد القديم ، وهاتان العقيدتان على أتم التناقض .وما ذكره من الإشارة إليها في أول سفر التكوين بذكر اسم الله ولفظ [ روح الله] غير مسلم ، فإنه لم يفهم ذلك منهما أحد من اليهود ولا غيرهم قبل ابتداع هذه العقيدة ، ولا يجوز -بل لا يعقل- أن يكون أساس العقيدة في كتاب الله مبهما لا يفهمه المخاطبون منه كما عملت آنفا من استشهاده بالمزمور 33:6 ، وهذان اللفظان موجودان في القرآن المجيد الذي يصرح بكفر القائلين بالتثليث .
6ما ذكره في مسألة ( وحدة الله ) من سبب التصريح بتوحيد الله تعالى بأقوى النصوص في العهد القديم وهو سد ذريعة الوثنية التي كانت كثيرة الشيوع في الأزمنة الأولى هو حجة عليه ، فإن تلك الوثنية التي أراد الله تعالى إلى سد ذرائعها بنصوص التوحيد القطعية لموسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام كان من أركانها عقيدة التثليث الهندية المصرية اليونانية ، فما وقع فيه النصارى من الوثنية هو الذي أريد وقاية أتباع الأنبياء منه بتلك النصوص الإلهية في كتبهم ، ولا سيما الوصية الأولى من وصايا التوراة ، وإنما أوقعهم فيه هذه الألفاظ المجملة في رسائل بولس وأناجيل تلاميذه ، وعدم تأويلهم لها بما يوافق توحيد جميع الأنبياء ونصوص التنزيه فيها وفي الإنجيل أيضا .
7إن استشهاده على كلمة«ابن الله » بما جاء في الفصل 3 من سفر دانيال غريب جداً جداً ، فإن عادته في قاموسه أن يذكر بجانب كل كلمة تفسيراً لها وشاهداً عليها من كلام الله أو كلام الأنبياء ، والعبارة التي ذكرها هنا هي كلمة لملك بابل نبوخذ نصر الوثني ، قالها في أحد الأفراد الذين ألقاهم في أتون النار ولم يحترقوا ، وهي «ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة » ، فلينظر المسلمون وغيرهم من العقلاء بم يؤيد هؤلاء النصارى تسميتهم المسيح ابن الله ؟ وبم يثبتون أن لله ابناً حقيقيا ؟ إنهم يحاولون إثبات هذا أو يؤيدونه بكلام الوثنيين في عقائدهم ، ثم ينكرون أنهم وثنيون .
8إنه حاول أن يفرق بين ما أمر المسيح به المؤمنين من خطابهم لله تعالى في الصلوات بقوله في أول الصلاة الربانية «أبانا الذي في السموات » الخ ، وما في معناه كقوله«أبي وأبيكم » ، وبين روايتهم عنه في بعض المواضع من قوله «أبي » ، فهو يزعم تقليداً لرؤساء ملته أن إضافة الأب إلى ضمير المتكلم منه عليه السلام وإضافته إلى ضمير الجميع فيما أمرهم به من قول«أبانا » دليل على أن أبوته تعالى له حقيقية وأبوته للمؤمنين على سبيل التبني .
وهذا من أغرب ما يؤثر عنهم من التحكم والابتداع المخالف للغة وللعقل وللنقل المأثور عن الأنبياء ، فأبوة الله الحقيقية لبعض البشر أو غيرهم من الخلق لا تعقل ، وأبوة التبني تزوير يجل الله عنه كما يتنزه عن مجانسة الخلق بالأبوة الحقيقية ، والأظهر في هذه الأبوة في كل موضع -إن صح النقل- أنها مجاز عن الرحمة والرأفة والتكريم ، ولا ننكر أن حظ المسيح عليه السلام منها جدير بأن يكون أعلى من حظ يعقوب وأفرايم وداود وسليمان ممن أطلق عليهم هذا اللقب في أسفار العهد القديم .ومن الكفر الصريح والطعن في تنزيه الله عزَّ وجلَّ عندنا وعند كل عاقل مستقل الفكر أن يقال أن له سبحانه ابناً حقيقيا ، وأبناء بالتبني ، أي أدعياء ، وهو عزَّ وجلَّ يقول في أبناء التبني الذي كان معهوداً عند العرب وأبطله بالإسلام{ وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} [ الأحزاب:4 ، 5] .
وأما الفرق بين ضمير الجمع وضمير المفرد فيما نقلوه فسببه يعرفه العوام كالخواص ، وهو أن الجمع للجماعة ، والمفرد للفرد ، ولو نقلوا عن المسيح عليه السلام أنه كان يقول في صلاته«أبي الذي في السموات » لكان لهم شبهة في هذه التفرقة .على أنه معارض بقول الرب في داود«مز 89:26 هو يدعوني أنت أبي » ، فإذا كانت إضافة لفظ أب إلى ضمير المفرد المتكلم تقتضي أن يكون المضاف إليه ابناً حقيقيا لله تعالى فقد كان هذا لداود قبل المسيح ، وأن لإضافة ابن إلى ضمير الرب المفرد من الاختصاص ما يساوي بل يفوق إضافة لفظ الأب إلى ضمير العبد .وقد تقدم ما في سفر الخروج من قول الرب«4:22 ابني بكري إسرائيل » ، ومثله قوله في سفر أرميا«31:9 إني صرت أبا لإسرائيل وأفرايم هو بكري » ، ووصف الأب الابن بكونه بكرا له يقرب به من الحقيقة أو الاختصاص ما لا يقرب مثله بإضافة الابن اسم أبيه إلى ضمير نفسه ، إذ من المعلوم أن المتبنى يخاطب متبنيه ويخبر عنه بقوله«أبي » كالابن من الصلب ، ولكن الرجل لا يصف من تبناه ولا يخبر عنه بقوله ابني البكر .
9قوله:إن المؤمنين أعضاء في عائلة الله الروحية ما أملاه عليه إلا أن عقله لا يفهم من لفظ«ابن الله وأبناء الله » إلا المعنى المجازي ، ومقتضاه أن كل ما يعقل من نصوص العهد الجديد في إطلاق اللفظ على المسيح بكثرة أو نوع امتياز إنما يراد به أنه عليه السلام كان أفضل من غيره من أعضاء هذه العائلة الروحية المدعاة ، والمسلمون لا ينكرون هذا الامتياز ، فإنهم يفضلونه عليه السلام على أجداده إسرائيل وداود وغيرهما ممن أطلق عليه لقب «ابن الله » في العهد القديم .بل يفضلونه على جميع الأنبياء ما عدا إبراهيم وموسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
10إننا على بحثنا هذا في كلامه لإقامة الحجة على النصارى كلهم ننكر لفظ «عائلة الله » وأمثاله مما يخل بتنزيه الله رب العالمين عما تقتضيه من المجانسة ، فهو عزَّ وجلَّ ليس له جنس مادي ولا روحي{ ليس كمثله شيء} [ الشورى:11] ،{ سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [ الصافات:180] ،{ قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} [ الإخلاص:14] .
وأما معنى«روح القدس » وبطلان ما زعموه من كونه هو الله فقد تقدم بيانه مفصلا في تفسير آية( 2:87 ){ وأيدناه بروح القدس} وآية[ 4:171] ،{ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} وآية[ 4:169 من سورة النساء المشار إليها فيما تقدم قريبا] .
11 إنه من أجل عداوته للتوحيد ، ولتنزيه الخالق عزَّ وجلَّ عن الجنس والولد والشريك ، لم يذكر في صفاته عزَّ وجلَّ ما ورد في العهدين القديم والجديد ، من تنزهه تعالى عن الند والنظير والشبيه ، الذي يجب بحكم العقل أن تؤول لأجله أو تحمل عليه وتقيد به جميع النصوص الدالة على التشبيه ، كما جعل المسلمون قوله عزَّ وجلَّ:{ ليس كمثله شيء} [ الشورى:11] وقوله:{ سبحان ربك رب العزة عما يصفون}[ الصافات:180] أصل عقيدة التنزيه ، وقيدوا بها معاني الآيات الموهمة للتشبيه ، وقد جاء في سفر الاستثناء من أسفار التوراة ( فكلمكم الرب من جوف النار فسمعتم صوت كلامه ولم تروا الشبه ألبتة*فاحفظوا أنفسكم بحرص فإنكم لم تروا شبهاً يوم كلمكم الرب في حوريب من جوف النار ) ، والعقلاء من اليهود يردون جميع العبارات التي ظاهرها التشبيه والأعضاء للرب تعالى إلى هذا النص النافي للتشبيه .
وقد جاء في إنجيل يوحنا الذي تفرد بأقوى الشبهات على التثليث ما يدل على التنزيه قال:( الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي خبر ) ، ومثله في الرسالة الأولى ليوحنا «الله لم ينظره أحد قط » ؛ بل قال مثل ذلك أستاذه بولس في رسالته الأولى إلى تيموتادس ، فإنه وصاه بحفظ الوصية إلى ظهور المسيح وقال عن هذا الظهور:«الذي سيبينه في أوقاته المبارك الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب*الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه أحد الذي له الكرامة والقدرة الأبدية » .
فتبين بما تقدم أن عقيدة التثليث وألوهية المسيح المخالفة لحكم العقل ليس لها أصل في كتب الأنبياء عليهم السلام لا قطعي ولا ظني ، وإن شبهاتها في العهد الجديد ضعيفة ليست نصاً ولا ظاهرة فيها .على أن كتب العهد الجديد لا يوثق بها ، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح في عصره ، ثم رفضت مجامعهم المسكونية الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات ، وقيل بالمئات ، واعتمدت أربعاً منها ليس فيها إلا قليل مما رووه من أقوال المسيح وأفعاله ، كما قال يوحنا في آخر إنجيله«وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين » اه ومن المعلوم بالبداهة أنه كان يقول عند ما كان يفعل ، فلم تكتب أقواله ولا أفعاله الكثيرة .
وقد تكرر في كتب العهد الجديد -ومنها الأناجيل الأربعة- ذكر إنجيل المسيح ، وفي بعضها يسمى «إنجيل الله » ، ومن المعلوم بالبداهة أنه لا يراد بهذا الإنجيل أحد هذه التواريخ الأربعة التي تحدث عنه .وفي هذه الكتب أيضا أنه كان يوجد أناجيل كاذبة ، وأناجيل محرفة ، ورسل كذبة .وقد فصلنا القول في مسألة إنجيل المسيح وهذه الأناجيل ، وأثبتنا عدم الثقة بها ، وأن مجموعها يثبت ما نطق به كتاب الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو أن النصارى كاليهود نسوا حظاً عظيماً مما ذكروا به ، وأنهم أوتوا نصيباً منه ، وأنهم انتحلوا عقائد وثنيي الهند وغيرهم من القدماء في الثالوث ( فراجعه في ج 6 ) .
قال الله تعالى:{ ذلك قولهم بأفواههم} ، أي ذلك الذي قالوه في عزير والمسيح هو قولهم الذي تلوكه ألسنتهم في أفواههم ، ما أنزل به الله من سلطان ، ولا يتجاوز حركة اللسان ، إذ ليس له مدلول في الوجود ، ولا حقيقة في مدارك العقول ، فهو كقوله تعالى:{ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} [ الكهف:4 ، 5] ، وفي معناه قوله في التبني{ وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [ الأحزاب:4] وقوله في أهل الإفك{ إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} [ النور:15] فذكر الأفواهوكذا الألسنةمع العلم بها بالحس لبيان ما ذكر ، أي أنه قول لا يعدوها ولا يتجاوزها إلى شيء في الوجود فهو كما يقول العوام:«كلام فارغ » .
{ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} أي يشابهون ويحاكون فيه قول الذين كفروا من قبلهم ، فقالوا هذا القول أو مثله .قيل:إن المراد بهم مشركو العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله .وقيل:إن المراد سلفهم الذين قالوا هذا القول قبلهم .وهذا مبني على أن الكلام في اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن ، إذ لم يصل إلينا أن أحدا من سلف أولئك اليهود في بلاد العرب أو غيرها قالوا عزير ابن الله ، وإن كان غير بعيد في نفسه ، ولو كانت الآية نصاً فيه لجزمنا به ؛ لأن عدم وصول نقل إلينا فيه لا يقتضي عدم وقوعه .
والراجح المختار أن المراد بكل من اليهود والنصارى في الآية الجنس ، وهو يصدق بوقوع ذلك من بعضهم في أي عصر كان ، والمختار في مضاهأتهم للذين كفروا من قبلهم يصدق في كل من وقع ذلك منهم والله أعلم بهم .
وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان ، وقد بينا هذا في تفسير آية 4:196 التي تقدمت الإشارة إليها آنفا ، وهذا البيان لهذه الحقيقة من معجزات القرآن ، فإنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم ؛ بل لم تظهر إلا في هذا الزمان ، كما يقال مثل هذا فيما بينه من حقيقة أمر كتبهم ، وسيأتي بيانه قريبا في فصل خاص .
{ قاتلهم الله} هذه الجملة تستعمل في اللسان العربي للتعجب ، فهو المراد بها لا ظاهر معناها .قال في مجاز الأساس:وقاتله الله ما أفصحه .اه وحكى النقاش أن أصل«قاتله الله » الدعاء ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء اه .وفسره بعضهم بالدعاء على أن المراد به اللعنة أو الهلاك .والأول أظهر .
{ أنى يؤفكون} تقدم مثل الجملة في الرد على قول الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة ، إذ قال تعالى:{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [ المائدة:75] ، ومثله في سورة الأنعام بعد الاستدلال على الخالق عز وجل:{ ذلكم الله فأنى تؤفكون} [ الأنعام:95] ، والإفك صرف الشيء عن وجهه ، [ وبابه من وزن ضرب] ، ويقال أفك بالبناء للمفعول بمعنى صرف عقله عن إدراك الحقيقة ، ورجل مأفوك العقل ، فمادة أفك تستعمل في صرف العقل والنفس عن الحق إلى الباطل ونحوه .والمعنى هنا كيف يصرفون عن حقيقة التوحيد والتنزيه للخالق عز وجل ، وهو الذي تجزم به العقول ، والذي بلغه عن الله تعالى كل رسول ، فهو جمع بين المعقول والمنقول ، ويقولون هذا القول الذي لا يقبله عقل ، ولم يصح به عن أنبياء الله ورسله نقل ؟ فأين عزير والمسيح من رب العالمين ، الخالق لهذا الكون العظيم ، الذي وصل من عجائب سعته إلى علم البشر القليل أن بعض شموسه لا يصل نورها إلى الأرض إلا بعد قطع الملايين من السنين النورية ، فهل يليق بعاقل من هذه الدواب التي تعيش على هذه الذرة الصغيرة منه ( وهي الأرض ) أن يجعل لخالقه كله ، ومدبر أمره ، ولدا وعائلة من جنسه ، وأن يرتقي به الغرور إلى أن يجعل واحدا منهم هو الخالق له ، والمدبر لأمره ، مع العلم بأنه ولد من امرأة وكان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم الخ:{ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [ الزمر:39] ،{ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} [ الأنبياء:2629] .
وفي الآية من القراءات تنوين ( عزير ) بناء على أنه عربي بما تصرفت به العرب فجعلته بصيغة اسم التصغير ، وأن ( ابن الله ) خبر عنه لا وصف له ، وهو المروي عن عاصم والكسائي ويعقوب ، وقرأه الباقون بغير تنوين بناء على أنه اسم أعجمي ، فاجتمع فيه علتا العلمية والعجمة ، وفيه وجه آخر في الإعراب ، وقرأ عاصم ومن أخذ عنه ( يضاهئون ) بالهمز والباقون ( يضاهون ) من الناقص ، وهما لغتان .
فصل استطرادي
في هيمنة القرآن على التوراة والإنجيل وشهادته لهما وعليهما
إن قيل:إن ما ذكرت يبطل الثقة بالكتب التي بها سمى الله اليهود والنصارى أهل الكتاب حتى التوراة والإنجيل ، وقد شهد القرآن المجيد لليهود بأن عندهم التوراة فيها حكم الله ، وأمرهم بأن يحكموا بما أنزل الله فيها على سبيل الاحتجاج عليهم ، كما أمر أهل الإنجيل بمثل ذلك ، وقال في نبيه صلى الله عليه وسلم ووصف الناجين منهم بقوله:{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} [ الأعراف:157] ، وهم يحتجون على المسلمين بهذه الآيات ، ومن دعاة النصارى ( المبشرين ) من ألف كتابا في ذلك سماه ( شهادة القرآن لكتب أنبياء الرحمن ) ، فبطلان الثقة بما عندهم من التوراة والإنجيل يستلزم بطلان الثقة بالقرآن ، ويكون حجة لملاحدة التعطيل على بطلان جميع الأديان ، فما جوابك عن هذا ؟
قلت:قد سبق الجواب عن هذه الشبهة في هذا التفسير ، وفي ( المنار ) ، ونعيده الآن بأسلوب آخر لزيادة البيان:
فأما أهل الكتاب فحجتهم علينا بما قالوا إلزامية لا حقيقية ؛ لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ، فلا تنفعهم فيما ذكر من الطعن في ثبوت كتبهم ، وهم يكتفون من إغواء المسلمين بتشكيكهم في دينهم ، ظناً منهم أنهم إذا كفروا بدينهم يسهل إدخالهم في النصرانية ولو نفاقا كالكثير من أهلها ، لأنها أدنى إلى استباحة جميع شهوات الدنيا{ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} [ النساء:89] ، ولكن هذا الإلزام لا يتم لهم علينا إلا إذا أخذت شهادة القرآن على هذه الكتب مع شهادته لها وقبول حكمه فيها ، لأنه نص على أنه مهيمن رقيب له السيطرة عليها ؛ إذ قال بعد ذكر التوراة والإنجيل من سورة المائدة{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [ المائدة:48] .ومما حكم به على اليهود والنصارى جميعاً أنهم نسوا حظاً عظيماً مما ذكروا به فيما أنزله الله عليهم ، وأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب لا الكتاب المنزل كله ، وأنهم مع هذا حرفوه وبدلوه ، وقد بينا هذا كله في مواضعه من تفسير الآيات الناطقة به ، وفي الرد على المبشرين ، ومواضع أخرى من المنار .
وأما الملاحدة الذين استدلوا بنصوص التواريخ مع دلائل العقل على فقد تلك الكتب وعدم الثقة بشيء من الموجود منها فجوابنا لهم أن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قريب من حكمهم عليها من ناحية فقد الثقة بها ، ولكن في جملتها ، لا في كل جملة منها .فحكمه أدق وأصح في نظر العقل ، مع صرف النظر عن كونه لا يعقل أن يكون إلا بوحي الله عز وجل .ذلك بأن قوله في اليهود{ يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به} [ المائدة:13] مع قوله:{ أوتوا نصيبا من الكتاب} [ آل عمران:23] هو المعقول ، فإن العقل لا يتصور أن تنسى أمة كبيرة جميع شريعتها بفقد نسخة الكتاب المدونة فيه ، وقد عملت به في عدة قرون .وكذا قوله:إنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وذلك ثابت بالشواهد الكثيرة من زيادة ونقصان وتغيير وتبديل ، كما بينه الشيخ رحمه الله في كتابه ( إظهار الحق ) وغيره .واليهود يعترفون بأن عزيراً ( عزرا ) كتب ما كتب من الشريعة بعد فقدها باللغة الكلدانية لا بلغة موسى عليه السلام ، وكان يضع خطوطاً على ما يشك فيه .فالمعقول أنه كتب ما ذكره وتذكره هو ومن معه دون ما نسوه ، وكان منه الصحيح قطعاً ، ومنه المشكوك فيه ، ومنه الغلط ، ومن ثم وجد التحريف ، ولا محل هنا للإتيان بالشواهد على هذا .
وبناء على هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ){[1532]} الحديث .رواه البخاري في صحيحه ، وسببه أن عمر رضي الله عنه كان قد نسخ شيئا من التوراة بالعربية وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنكره صلى الله عليه وسلم عليه كما رواه أحمد والبزار من حديث جابر وقال:( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي ) ، فعلم من ذلك أن فيما عندهم ما هو حق وهو ما أوتوه ، وما هو باطل وهو ما حرفوه ، ودع ما فقد وهو ما نسوه .
ومن ثم كان التحقيق عندنا معشر المسلمين أن نؤمن بالتوراة والإنجيل بالإجمال ، وبأن ما ورد النص عندنا بأنه من حكم الله تعالى كحكم رجم الزاني الذي ورد فيه{ وعندهم التوراة فيها حكم الله} [ المائدة:43] نجزم بأنه مما أوحاه الله إلى موسى عليه السلام ، وما دل النص على كذبهم فيه ككون هارون عليه السلام هو الذي صنع لهم العجل الذهبي الذي عبدوه ، وكون سليمان قد ارتد وعبد الأوثان ، وكون لوط زنا بابنته ، فإننا نجزم بكذبه ، وأما ما احتمل الصدق والكذب فإننا لا نصدقهم ولا نكذبهم فيه .واليهود والنصارى في هذا سواء عندنا ، وتقدم بيان حالهم في نسيان حظ عظيم من إنجيل عيسى عليه السلام{[1533]} .
ويمكننا أن نستدل بهذا التحقيق وبتحقيق مسألة كلمة الله وروح الله ( روح القدس ) -التي ضل فيها قدماء الوثنيين وتبعهم النصارى- الذي جاءنا على لسان النبي الأمي الذي لم يقرأ شيئا من كتب أهل الكتاب ، ولا من التواريخ العامة ، ولا الخاصة ، على أنه وحي من الله تعالى عالم الغيب والشهادة ، فإنه هو التحقيق المعقول الذي ينطبق على نقول التواريخ وحكم العقل ، ولم يسبق إلى بيانه أحد من أهل الكتاب ولا من غيرهم .كما أنه لا يسع عاقلا منصفا رده .ولا يعقل أن محمد صلى الله عليه وسلم عرفه برأيه لأن الرأي في مثل هذا يبنى على معلومات كثيرة لم يكن له ولا لقومه علم بشيء منها ، وقد قال الله تعالى له بعد ذكر قصة نوح من سورة هود المكية:{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [ هود:49] ، ولم يعترض عليه أحد من أعدائه من قومه المشركين فيقول بل نعلمها ، وهي من القصص المشهورة عن أهل الكتاب ، وأين كانوا من علم أهل الكتاب ؟ ولا يعقل أيضاً أن يكون أخذ حكمه على التوراة والإنجيل عن أحد من اليهود أو النصارى ، لا لأنه لم يكن يوجد أحد منهم في بلده فقط ؛ بل لأنهم لم يكونوا يعلمون ذلك ، ولأنهم لو علموه لما قالوه ؛ لأنه طعن فيهم وفي دينهم ، فلم يبق ظهور صدقه إلا الجزم بكونه وحياً من عالم الغيب ، ووجها من وجوه إعجاز القرآن السافرة النيرة .
فصل استطرادي آخر
نصرانية الإفرنج ولماذا لا يسلمون ؟
فإن قيل:إنكم معشر علماء المسلمين ما وقفتم على كل هذه الحقائق التاريخية التي تبطل الثقة بنقل كتب اليهود والنصارى ، وعلى ما فيها من التعارض والتناقض والخطأ العلمي والتاريخي ، وكذا التعاليم الضارة التي تدل على استحالة كونها كلها وحياً من الله تعالى ، ولا على مصادر عقيدة التثليث والصلب والفداء من أديان قدماء الوثنيين ، ما وقفتم على كل هذا مما لخصتم بعضه هنا وبعضه من قبل ، إلا من كتبهم الدينية والعلمية والتاريخية ، ولا سيما كتب علماء أوربة من أحرار الماديين والمتدينين جميعا ، وبالاطلاع على هذه الكتب كان المتأخرون منكم كالشيخ رحمة الله الهندي والطبيب محمد توفيق صدقي المصري رحمهما الله وغيرهما أعلم بما ذكر من فحول المتقدمين الذين ردوا على النصارى كالإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنهما ، فكيف نرى أكثر هؤلاء النصارى ثابتين على دينهم هذا في الشرق والغرب ؟ ولا سيما الإفرنج الذين نشروا تلك الحقائق في شعوبهم بجميع لغاتهم ، ولا يزال أغنياؤهم يبذلون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لنشر هذا الدين في العالم وتؤيدهم دولهم في ذلك ؟
بل كيف لا يستحيون -وهذه حالهم في دينهم- من دعوة المسلمين إليه ومن طعنهم في الإسلام ؟ بل كيف لا يدخلون في الإسلام أفواجا وقد اختبروا جميع الأديان والتواريخ وآن لهم أن يعلموا أنه هو الدين القطعي الرواية ، الموافق للعقل والفطرة ، الحلال لجميع مشاكل الاجتماع المفسدة للحضارة ، الذي بين لهم حقيقة دينهم وما عرض عليه من البدع فأيدته فيه أبحاث المحققين من علمائهم الأحرار ؟
قلنا:إن حل هذه المشكلات والأجوبة عن هذه الشبهات لا يمكن بسطها إلا في سفر كبير ، فنكتفي هنا بالإلمام بقضاياها الكلية المهمة بالإجمال ، وهي مبسوطة في مواضع من المنار والتفسير بالتفصيل ، فنقول:
1أسباب بقاء النصرانية في أوربة:
إن للدين المطلق سلطاناً على أرواح البشر لأنه غريزة فيها ، فهو عبارة عن علاقتهم بعالم الغيب مبدأ وغاية ، وهي من عالم الغيب ، ولذلك ينكر وجودها المحجوبون بعالم الشهادة( المادي ) ، وهو مع هذا حاجة من الحاجات الطبيعية لهذا النوع الاجتماعي الذي خلق لحياة لا نهاية لها ، فأعطي استعداداً لعلم لا حد له ، يهدي إلى أعمال اجتماعية لا حد لها ولا نهاية ، فلا بد لجماعاته في التعاون عليها من وازع نفي وجداني يزع كلا منهم ويردعه عن البغي والعدوان على غيره ممن لا يتم علمه وبروز استعداده إلا بهم أينما كان وكانوا ، وحيث لا وازع من قوة السلطان والعدل بالأولى .ولم يعرف السواد الأعظم من هذه الشعوب ديناً تعليمياً يتوجه إليه الدين الفطري المطلق ويتقيد به إلا هذا الدين الذي لا يزال فيه أثارة من هداية طائفة من أنبياء الله ورسله لم تقو أحداث الزمان القديمة على محوها ، على كل ما أشرنا إليه من عبثها بها ، فهو بها مظهر لما كان من تعرف الخالق العظيم إليهم بالآيات وخوارق العادات والإنباء بالمغيبات ، وقد أتقن رؤساؤه نظام تربيتهم الوجدانية عليه ، وتلقينه لهم بالأساليب المؤثرة ، ودفع الشبهات عما يرد عليه من الاعتراضات الكثيرة ، وارتبطت سياستهم ومصالحهم العامة والخاصة به ، وصار وسيلة من أقوى وسائل الاستعمار والاستيلاء على الشعوب لدولهم ، فاتفقت مع الجمعيات الدينية على نشره في جميع الأمم بدعاية التبشير ، فاجتمع لهم من وسائل هذه الدعاية القوة والمال الكثير ، والعلم والنظام الدقيق ، فبمجموع هذه القوى والأسباب بقي هذا الدين حياً في هذه الشعوب على تفاوت عظيم بين أهلها في فهمه .
2غلو الإفرنج في الإلحاد وشعورهم أخيراً بالحاجة إلى الدين:
إن المطلعين على تلك الحقائق التي تبطل الثقة برواية كتبهم ، وكثير من معانيها المخالفة للعلم والتاريخ ، وبعقائدهم أيضا قليلون بالنسبة إلى غير المطلعين عليها ، وقد فشا فيهم الكفر والتعطيل ، أو الكفر بدين الكنيسة خاصة من التثليث وألوهية المسيح والفداء والاستحالة في العشاء الربانيأي استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمهوقد كانوا غلوا في الإلحاد عقب تمكن الحرية فيهم والتوسع في العلوم بقدر ما كان من غلو سيطرة الكنيسة على الأفكار والأعمال ، وألفوا كثيرا من الكتب والرسائل في الطعن في هذا الدين ، حتى كان يخيل إلى زوار أوربة من أهل الشرق أن أوربة أصبحت مادية لا تدين بدين ، وإنما بقي فيها بعض رسوم النصرانية يدين بها العامة المقلدون ، والمتمتعون بأوقاف الكنائس وسلطانها الروحاني ، ولكن الفوضى الدينية بلغت غاية مدها في إثر حرب المدنية العامة ، فشعر العقلاء بشدة الحاجة إلى الدين المطلق بسنة «رد الفعل » ، وألفوا عدة جمعيات لإرجاع هدايته على قواعد مختلفة ، بعضها قريب من العقل وبعضها بعيد عنه ، بناء على أن الدين يجب أن يؤخذ كله بالتسليم بغير بحث ولا عقل ، حتى قيل:إنه قد كثر في البروتستانت من الإنكليز من يميلون إلى الرجوع إلى الكاثوليكية ، لأن لرسومها وتقاليدها ، وصورها وتماثيلها ، ونغمات نشيدها ، من السلطان والتأثير في القلب ما ليس للكنيسة الإصلاحية اللوثرية .
ومن أعظم أثر هذا الانقلاب تودد جمهورية فرنسة الإلحادية إلى البابا ، وإعادتها لما سلبت من أوقاف الكنائس ، واتفاق الدولة الإيطالية مع البابا على إرجاع سلطانه السياسي والاعتراف بمملكته الدينية ورد أملاكها إليها ، ثم إجابة طلبه إلى إعادة التعليم الديني الكاثوليكي إلى جميع المدارس الإيطالية لما ثبت عند رجل هذه الدولة ورئيس حكومتها في هذا العصر من أن حفظ أخلاق الأمة من الفساد وجامعتها من الانحلال لا يتم إلا بالدينأي دين يحرم الفواحش والمنكرات ويجمع الكلمةوأن دين الأمة الموروث أولى بذلك من غيره إن فرض أن غيره ممكن قريب المنال ، ومثل هذه الأفكار لا يعقلها ملاحدة هذه البلاد وأمثالهم ؛ لأنهم لا يفكرون فيما ينفع الأمة ويضرها ، ولا في تأثير الدين في أخلاقها ووحدتها ، فمنهم من ينشر إلحاده تلذذاً بتقليد ملاحدة أوربة وتشرفاً بالتشبه بهم ، لصغاره وخسة نفسه ، ومنهم من ينشره خدمة للمستعمرين ، ومساعدة للمبشرين ، بأجر حقير ، وإثم كبير .
3محافظة الكنيسة على عقائدها وتأويلات المخالفين لها:
إننا نعتقد بما تيسر لنا من البحث والاختبار الطويل أن علماء الشعوب الأوروبية ومستقلي الفكر فيهم لا يؤمنون بعقائد الكنيسة التي أشرنا إليها في هذا السؤال وفي المسألة الثانية من قضايا الجواب عنه ، ولا بأن جميع ما في كتب العهدين القديم والجديد ولا أكثره حق موحى به من الله عز وجل ، بل نعلم أن كثيراً منهم قد اهتدى بعقله واستقلال فكره إلى ما يقرب من إصلاح الإسلام للنصرانية التقليدية ، وهو أن المسيح مخلوق ، ونبي رسول لا إله خالق ، بل حدثني رجل كان من كبار رجال الدين الكاثوليكي فجهر بما يعتقده مما يخالف تعاليمهم فحرمه الرئيس الأكبر منها ، حدثني بأن رؤساء الكنيسة أنفسهم الذين أدركوا حقائق العلوم لا يعتقدون ألوهية المسيح ولا التثليث ولا الاستحالة في العشاء الرباني ؛ بل يعلمون أنها دخيلة في دين المسيح ، ولكنهم يرون أنهم إذا صرحوا بهذا تبطل ثقة النصارى بالدين من أصله ، فيتعذر على رجال الكنيسة بسقوط رياستها حملهم على الأصول الصحيحة من الدين ، وهي الفضائل والآداب وتقوى الله الصادة عن الشرور والرذائل .
هذا وإن لكبار الأذكياء منهم تأويلات يتفصون بها من منكرات تلك الكتب والتقاليد ، كتأويل عاهل الألمان الأخير( غليوم الثاني ) بعد عثور علماء قومه على شريعة حمورابي في العراق ، وقولهم:إن جل شريعة التوراة مأخوذ عنها ، فإنه كتب كتابا لصديق له في كون هذا الأمر لا ينقض دينهم المبني على أساس التوراة أي كتب العهد القديم ، لأنه مبني على ما يسمونه الروح الذي فيها ، لا على نصوصها وتشريعها ، وقد قال في آخر ذلك الكتاب:
«ومن البديهي عندي أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من البشر لا من وحي الله .ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله أعطى موسى على جبل سيناء شريعة بني إسرائيل ، فإنني أعتقد أنه لا يمكن اعتبار تلك الشريعة موحى بها من الله إلا اعتباراً شعرياً رمزياً ، لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن شرائع أقدم منها على الأرجح ، وربما كان أصلها مأخوذاً من شرائع حمورابي .ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالا بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل وبين شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى .وذلك لا يمنع قطعياً من الاعتقاد بوحي الله لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته » .
ثم قال:وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي:
1إني أؤمن بإله واحد .
2إننا معشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله العظيم إلى شيء يمثل إرادته ، وأولادنا أشد احتياجاً منا إلى ذلك .
3إن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا بالتقليد ، وإذا فندت المكشوفات الأثرية بعض رواياتها وذهبت بشيء من رونق الشعب المختارشعب إسرائيلفلا ضير في ذلك ؛ لأن روح التوراة يبقى سليماً مهما يطرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال ، وهذا الروح وهو الله وأعماله .
إن الدين لم يكن من مستحدثات العلم فيختلف باختلاف العلم والتاريخ ، وإنما هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله » اه .
وأما مسألة المسيح فإنه فسرها قبل ذلك في كتابه المذكور بأن الله تعالى يظهر دائما في الجنس البشري الذي خليفته وصنيعته بما نفخ فيه من روحه .( قال ):أعني أنه منحه شيئا من ذاته إذ أعطاه نفساً حية ، وإن ظهوره هذا قد يكون في كاهن ، وقد يكون في ملك ، سواء كان من الوثنيين أو اليهود أو النصارى ، وقد كان حمورابي من هؤلاء الرجال ، كما كان موسى وإبراهيم وهو ميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوت وقنت( أو كونت ) والأمبراطور غليوم الكبير( يعني جده ) ....ثم ذكر أن ظهور الله في الأشخاص يكون على حسب استعداد أممهم ودرجتها في الحضارة ، وأنه لا يزال يظهر إلى عصرنا هذا( يعني في شخصه ) .
فبمثل هذه التأويلات والآراء يدين أهل العقل والعلم في أوربة ، لا بدين الكنيسة كما يزعم دعاة النصرانية ( المبشرون ) الكذابون الخداعون ليغشوا عوام المسلمين بعظمة الإفرنج الدنيوية ، وبتسميتهم حضارة أوربة مسيحية .
وقد كان للفيلسوف تولستوي الروسي الشهير تأويل للإنجيل قريب مما قلناه في بيان حقيقته بهداية الإسلام .وخلاصته أن إنجيل المسيح الصحيح هو عبارة عن حكمه ومواعظه التي كانت جواهر ألقيت في مزابل من الخرافات والأوهام ، وأنه هو قد عني باستخراجها وتنظيفها مما علق بها ، وشبهها بتمثال مكسر ملقى فيها ، فعثر هو عليه قطعة بعد أخرى ، حتى إذا تم وكمل علم أن عمله حق صحيح .وألف في ذلك كتابا كبيراً سماه الأناجيل ، وسمى ما استخلصه منها الإنجيل الصحيح .وقد سبق لنا تلخيص مقدمته التي بين فيها ما حققه في الموضوع ( ص 131 ، 226 و 259 م 6 المنار ) .
ومما قاله فيها:«إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أن من الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في جميع آياتها » ، وأيد ذلك بما هو مسلم عندهم من «أن المسيح لم يؤلف كتاباً قط كما فعل أفلاطون وغيره من الفلاسفة ، وأنه لم يلق تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب ، وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم ، كان يصادفهم في طريقه » .أي فلم يحفظوها ولم يكتبوها ، وفي هذه الأناجيل نصوص صريحة بأنهم لم يكونوا يفهمون كل كلام المسيح ، ولا سيما أمثاله التي كان يضربها لهم .
ثم ذكر تولستوي أنه جاء بعده بزهاء مائة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر في بالهم أن يدونوها بالكتابة ، فكانت مدوناتهم كثيرة ، ومنها ما كان محشواً بالخطأ والغلط ، وأن الكنيسة اختارت بعد ذلك من ألوف المصنفات ما رأته أقرب إلى الكمال ، «وإن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل المهملة ، لاعتبارها محلاً للشك والارتياب ، وأن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل على أشياء جميلة قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية » الخ ، ومما حققه في هذه المقدمة أن دين المسيح الصحيح أجنبي عن العقيدة العبرانية ، وعقيدة الكنائس النصرانية ، وأن بولس لم يفهم دين المسيح ألبتة .
فهذه نصرانية هذا الفيلسوف الكبير ، وتلك عقيدة ذلك العاهل الكبير ، وما أتعب الأول في التفكير والآخر في التأويل إلا سلطان الدين الفطري على النفس ، ومشاقة الدين الكنسي للعقل والعلم ، ولو أنهما اطلعا على حكم القرآن في أمر التوراة والإنجيل والمسيح وكونه من روح الله وآية من آياته وأن معنى كونه كلمة الله أنه وجد بكلمة التكوين «كن » لكان هذا وحده برهانا كافياً لاهتدائهما بالإسلام ، واتباعهما لمحمد عليه الصلاة والسلام ، فكيف لو اطلعا على غير ذلك من الحقائق والحكم والأحكام ؟ على أن القليل الذي بلغهما منه قد أنطقهما بما يدلان على إكباره ، فللفيلسوف رسالة جليلة في ( حكم محمد صلى الله عليه وسلم ) ، وللإمبراطور كلمة قالها لموسى الكاظم شيخ الإسلام في الأستانة إذ زارها في أيام الحرب الكبرى تنمي عن مؤلف كبير ، وهي:فسروا القرآن التفسير الذي تظهر فيه علويته ...فهو قد علم أنه علوي لا أرضي ؛ بل هو الحق الذي يعلو ولا يعلى ، والذي يحطم ما دونه .
4إحصاءات نسبية في عقائد الإنكليز النصرانية:
لا تقل إن هذه آراء لبعض كبراء العقول ومفرطي الذكاء ، وإنه يقل مثلهم في الإفرنج ، فقد نقلت إلينا الصحف أن جريدتين من أشهر الجرائد الإنكليزية نشرتا أسئلة في العقائد على ألوف من الناس ، وذكرت خلاصة أجوبتهم بالنسبة المئوية ، علم منها أن الملايين من المتعلمين منهم لا يدينون بدينهم البروتستنتي الذي هو على علاته أسلس من الدين الكاثوليكي والدين الأرثوذكسي لقيادة العقل وإذعان النفس .
ومنها:«هل تعتقد بإله مجسد ؟ فأجاب إحداهما 40 في المائة نعم ، و55 في المائة لا ، و4 لم يجيبوا ، وأجاب الأخرى 71 نعم ، و26 لا ، واثنان لم يجيبا .
ومنها:هل تعتقد أن المسيح ذو ألوهية ، بمعنى أنه لا يمكن أن يقال إن جميع الناس هم أولو ألوهية مثله ؟ أجاب الأولى 35 في المائة نعم ، و61 لا ، و2 لم يجيبا ، وأجاب الأخرى 68 نعم ، و29 لا ، واثنان لم يجيبا .
ومنها:هل تعتقد بمذهب الرسل ، أي تلاميذ المسيح ؟ أجاب الأولى 21 نعم ، و71 لا ، و7 لم يجيبوا ، وأجاب الأخرى 53 نعم ، و26 لا ، و10 لم يجيبوا .
ومنها:هل تعتقد بالمذهب الذي ترسمه الكنيسة ؟ أجاب الأولى 24 نعم ، و68 لا ، و7 لم يجيبوا ، وأجاب الثانية 52 نعم ، و37 لا ، و10 لم يجيبوا .
ومنها:هل تعتقد أن التوراة موحى بها ؟ أجاب الأولى 29 نعم ، و 68 لا ، و3 لم يجيبوا ، وأجاب الثانية 63 نعم ، و33 لا ، و3 لم يجيبوا .
ومنها:هل تعتقد باستحالة العشاء الرباني إلى لحم ودم كأنه من جسد المسيح ؟ أجاب الأولى 4 نعم ، و93 لا ، و2 لم يجيبا ، وأجاب الأخرى 10 نعم ، و86 لا ، و3 لم يجيبوا .
وسبب التفاوت بين أجوبة الجريدتين أن أكثر قراء الأولى الذين لا يدينون بتلك العقائد من الخواص المستقلين ، وأكثر مسؤولي الأخرى الذين يدينون بها من العوام المقلدين .
5عقائد علماء الإفرنج في هذا العهد:
ملخص القول في الدين عند الإفرنج كما يتراءى لنا أن العوام لا يزالون يخضعون لدين الكنائس ونظم رجالها في الجملة ، ولعلهم يبلغون النصف في مجموع شعوبها .وإن الملاحدة المعطلين فيهم على كثرتهم هم الأقلون في النصف الآخر ، وسائر النصف يؤمنون بأن للعالم خالقاً ، وأنه واحد عليم حكيم ، يعرف بأثره في نظام العالم الكبير ، وأما ذاته فهي غيب مطلق لا تتصور كنهها العقول .ضرب له الفيلسوف الألماني( اينشتين ) الشهير مثلاً غلاماً مميزا دخل داراً من دور الكتب الكبرى ، فرأى في خزاناتها ألوفاً من الكتب منضودة مرتبة من أدنى الحجرات إلى سقوفها ، فهو يدرك أن في هذه الكتب علوما كثيرة مكتوبة بلغات متعددة ، وأن الذين وضعوها في مواضعها أولو فهم ونظام هندسي دقيق ، وأما ما دوّن فيها من العلوم والفنون فلا يصل عقله إلى أقل القليل منها .
وأما الإيمان ببقاء النفس بعد الموت وجزائها بعملها بقدر تأثيره الحسن أو القبيح فيها فقد كان قليلا في هؤلاء الناس ، ولكنه كثر في هذا القرن بانتشار مذهب الروحيين الذين أدرك كثير منهم بعض الأرواح تتجلى لبعض المستعدين لإدراكها( وهم قليلون ) ، وتخاطبهم وتملي عليهم كلاماً لم يكونوا يعلمونه ، وتحرك أيديهم بكتابة أشياء ربما كانت بلغة غير لغتهم ، ويكثر عدد المصدقين بهذه التجليات الروحية سنة بعد سنة ، ولهم جرائد ومجلات ومدارس خاصة بهم ، ومنهم العلماء بكل علم من علوم العصر العالية من طبيعة وطبية ورياضية ، الذين لم يؤيدوا هذا المذهب إلا بعد تجارب دقيقة أمنوا أن يكون ما رأوه وسمعوه من جانب الأرواح خداعاً .
ورؤية أرواح الموتى وغيرها من الأرواح العلوية والسفلية مما نقل عن جميع الأمم ولا سيما الصوفية ، ومجموع المنقول منها يدل دلالة عقلية على أن لها حقيقة ثابتة ، ولكن الصحيح منها قد اختلط بالتخيلات والأوهام وبالشعوذة وصناعة السحر ، فقلت ثقة العقلاء المستقلين بأخبارها لتعسر التمييز بينها ، وإنما تجدد في هذا العصر جعل استحضار الأرواح ومخاطبتها صناعة تعليمية تثبتها التجارب لكل من يطلب معرفتها ، ولكن بوساطة المستعدين لرؤيتها ، وقد كثر في منتحليها الدجالون الذين اتخذوها ذريعية للكسب ، فكان ما عرف من خداعهم أقوى صارف للعقلاء المستقلين عن تصديق غيرهم ، ومن الناس من يعتقد أن هذه الأرواح التي يستحضرونها من شياطين الجن لا من أرواح البشر ، وهو حجة على الماديين بوجود عالم حي عاقل غير عالم المادة وسننها ( نواميسها ) أيضاً .
ورجال الدين يكذبونهم غالباً ؛ لأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يخالف بعض تعاليم الدين ، وإن كان من جهة أخرى يؤيد ركناً من أركان العقيدة وهو بقاء النفس والحياة الأخروية بعد الحياة الدنيا .وقد بالغ بعض الباحثين من المسلمين بمصر في إثبات هذه المسألة ، حتى زعم زاعم منهم أنه لا يمكن ثبوت الدين إلا بثبوتها .قلت له مرة:إن صح قولك فالدين لم يثبت في الزمن الماضي ! !
ومن الناس من يطعن في هذه الروايات عن الأرواح بالاختلاف والتعارض بين ما ينقلونه عنها ، وإنما يتجه هذا الطعن بأمرين:
أحدهما أن تكون جميع أرواح الموتى تعلم الحقائق كما هي عليه ، وتكون معصومة من الكذب والخطأ فيما تخبر به الوسطاء الذين تتجلى لهم .
ثانيهما:أن يكون هؤلاء الوسطاء يدركون كل ما تلقيه إليهم الأرواح كما هو لا يفوتهم منه شيء ، ثم يؤدونه كما سمعوه لا يخطئون في شيء منه ، ولا يقوم دليل على إثبات هذا ولا ذاك ، بلى قرأنا مما نقلوه عن الأرواح أنها على درجات متفاوتة في عالمها ، وأن الدنيا منها لا تدرك ما تدركه العليا ، وأنها لا تعلم كل شيء مما تسأل عنه ، وأنها لا تستطيع أن تبلغ كل ما تعلم منه ، وأن منها ما لا يؤذن لها بتبليغه ، وجملة القول:إن هذه المسألة تفتقر إلى تمحيص وتحقيق ليس هذا الاستطراد في التفسير بمحل له .
وأما الوحي فمن المؤمنين بالله من هؤلاء الإفرنج وأمثالهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن بصحته ، ومنهم الذين لا يؤمنون بأن للبشر أرواحا مستقلة من غير عالم المادة ، ومنهم من يعتقد أن الوحي حالة من حالات النفس تستحوذ عليها فتفيض عليها بعض المعارف ، وتنطقها بما تكون متوجهة إليه في هذه الحالة من الحقائق ، ولكن صاحب هذه النفس لا يكون معصوماً من الخطأ فيما ينبع في نفسه من الأخبار كلها ، ولا من التعاليم العملية ونفعها .وقد بينا حقيقة الوحي في الإسلام المزيل لشبهاتهم عليه من قبل ، وسنعود إليه في أول تفسير سورة يونس بما هو أوضح إن شاء الله تعالى .
6آراء الإفرنج وأمثالهم في الدين والتدين .
للمتدينين من الإفرنج ومن على شاكلتهم في العلم والفلسفة والسياسة كاليابانيين والهندوس وغيرهم آراء في الدين تصرف أكثرهم عن النظر والتأمل فيه بمثل النظر في المسائل العلمية الذي يراد به استبانة الصحيح الراجح أو الأرجح لأجل اعتماده والأخذ به ، فأكثرهم يرى أن الدين تعاليم أدبية تهذيبية من ناحية ، ورابطة اجتماعية سياسية من ناحية أخرى ، وأن فائدته من الناحيتين تكون بقدر حسن تلقينه وتعليمه والبراعة في تربية النشء عليه ، لا بقدر صحة عقائده ومصادره في نظر العقل ، وجودة آدابه وأحكامه في نفسها أو بالإضافة إلى غيرها ، فهم لا يبحثون عن أقوى الأديان حججا وأقومها منهجا ليعتصموا بحبله ، ويدعوا قومهم للاهتداء به .
ومنهم من يرى أن محاولة تحويل الشعب عن دين وراثي تلقاه بالإذعان والقبول إلى دين آخر -لأنه أصح برهاناً منه- لا يخلو من مضار:منها الخلاف والشقاق في الشعب ، وضعف ارتباطه بأمته ودولته ، فهم يجتهدون في صيانة عقائد شعبهم ، ودفع الاعتراضات التي ترد عليها لأجل ذلك .
وأما الأحرار المستقلون الذين لا ينظرون إلى هذه الاعتبارات السياسية والاجتماعية فيرون أن مسألة العقائد مسألة وجدانية شخصية ، لا يثبتها العلم العصري المبني على الحس والتجربة ، فالصواب لمن قام الدليل عنده على حقية شيء منها أن يدين الله تعالى به في نفسه ، ولا يعرض لغيره بدعوة إليه ، ولا تخطئة له فيما يدين به ، لأن ذلك ينافي الحرية المشتركة ، ولكن هذه الحرية لا تكاد تخلص من دخائل التقاليد الدينية وتسلم من الشوائب الاجتماعية والسياسية إلا للأفراد من كل شعب ، وشرح هذا بالتفصيل يخرج بنا عن الغرض من هذا الاستطراد الذي يجب أن نقتصر منه على ما يختص بالعبرة من سياق موضوعنا في التفسير ، وهو أن علاقة الدين بالسياسة والاجتماع وقوة الشعب الأدبية ، ومحافظته على مقوماته ومشخصاته الملية ، تحول دون البحث عن حقيقة أقوم الأديان وأحقها بالتقديم والإيثار للاهتداء به ، ويستعان على هذه الحيلولة بنظام التربية والتعليم الذي بلغ الغاية من النظام ، ولكن أطوار الاجتماع ستضطرهم إلى هذا البحث واختيار الأصلح بذاته .
ولا بد لنا مع هذا من التذكير بما بيناه قبل من أن الدين لا يكون دينا تتحقق به هداية من يؤمن به إلا إذا كان مصدره أعلى من جميع مصادر العلم الكسبي لتذعن له النفس وتخضع الإرادة ، وقد وضع بعض حكماء أوروبة قواعد لدين علمي عقلي استحسنوها ولم يذعنوا لها ، لأن الإنسان لا يذعن إلا لما يعتقد أنه أعلى منه وله السلطان والقهر عليه .وكل ما يدركه بكسبه فهو يراه دونه ومقهور لإرادته ، لذلك لا يخضع البشر لكل ما يعتقدون أنه صواب وحق في نفسه إلا إذا وافق أهواءهم كما هو معلوم بالقطع من سيرة أفرادهم وجماعاتهم على اختلاف أنواعها ، والاختلاف من طبعها .فالدين الذي لا بد منه لإصلاح البشر لا يكون إلا بوحي من عالم الغيب ، ولا يثبت هذا في عصرنا هذا إلا بالإسلام .
7مبلغ الإفرنج بالإسلام وحكمهم عليه .
بزغت شمس الإسلام في عصر كانت فيه جميع شعوب الأرض متسكعة في دياجير الجهل والظلم والإسراف في الشهوات الحيوانية ، وكان آخر عهد لأوروبة بالعلم والأدب والحضارة عهد الروم ( الرومان ) الذين فتحوا أعظم ممالك الشرق المصاقبة لأوروبة .وكانوا قوما وثنيين ثم سطع عليهم بريق من نور الإنجيل وانتشرت فيهم النصرانية ديانة الزهد والإيثار والسلام ، ولكن كان إفسادهم لها أقوى من إصلاحها لهم ، فأحالوا توحيدها وثنية ، وحولوا سلمها حرباً ، وبدلوا زهدها إسرافاً وطمعاً ، وطهارتها فحشاً ودنساً ، فلما جاء النبي الذي كانوا ينتظرونه -وهو المصلح الأعظم الذي بشر به المسيح ، وسماه الفارقليط الحق ، ووعدهم بأنه سيعلمهم كل شيء- لم يلبث الحفاة العراة البائسون من أتباعه أن دكوا لهم ما بنوه من المعاقل والحصون في الشرق ، وثلوا لهم عروش ما استعمروا من الممالك ، وطردوهم من سورية ومصر وإفريقية ، فأرزوا وانكمشوا إلى أوطانهم الأصلية في أوروبة ، فصار العرب المسلمون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يغزونهم وغيرهم في أوروبة نفسها ، وتلاهم الترك المسلمون في ذلك ، فصبروا إلى أن أمكنهم جمع دول أوروبة على قتال المسلمين في هذه الممالك الشرقية بالدعاية إلى إنقاذ بيت المقدس مهد النصرانية منهم ، فكانت الحروب الصليبية المشهورة في التاريخ بفظائعها وفجورها ومفاسدها وفواحشها ومطامعها التي اقترفت باسم المسيحية الطاهرة البريئة منها ومن أهلها .
كان من تمهيد رجال الكنيسة -دعاة هذه الحرب وموقدي نارها- أن ألفوا كتبا ورسائل كثيرة ، وزوَّروا خطبا بليغة ، ونظموا أناشيد وأغاني مهيجة كلها في الطعن على الإسلام ، وتشويه سيرة المسلمين ، لم يعرف في تاريخ البشر لها نظير في الكذب والبهتان وقلب الحقائق وتشويه المحاسن ، ومحاولة جعل النور ظلاما ، والحق باطلاً ، والفضيلة رذيلة ، حتى إن المسلمين الذين اطلعوا على شيء من تلك المكتوبات بعد تلك الحروب بقرون أدهشهم العجب من تلك الأباطيل المخترعة التي لم تخطر لأحد منهم في بال ، ولم تلح لها صورة في خيال ، لمباينتها للقرآن المنزل والسنة المطهرة والسيرة النبوية ، والفتوحات العربية ، رحمة وعدلاً ، وكرماً وفضلاً ، وشرفاً ونبلاً ، وكذا ما دونها من الحروب الإسلامية .
ومن غرائب ذلك البهتان المشوه أنهم جعلوا دين التوحيد المطلق المجرد من جميع أوهام الوثنية دين وثنية وعبادة أصنام ، وأنهم اختلقوا له «ثالوثا » وأصناما ، وزعموا أن محمدا نفسه صلى الله عليه وسلم ادعى الألوهية ، واخترعوا له من المطاعن الفظيعة ما تعجز غير تلك العقول المظلمة القذرة عن تخيله ، ويتنزه كل ذي وجدان بشري سليم عن افترائه ، ويستحي غير الشيطان الرجيم من النطق به أو كتابته ، ومن ليس له إلمام من المسلمين أو غيرهم بشيء من ذلك فلينظر في ( كتاب الإسلام خواطر وسوانح ) للمستشرق الفرنسي ( الكونت هنري دي كاستري ) ، وترجمته العربية لأحمد فتحي باشا زغلول ، وحسبه الفصل الأول منه في هذا الموضوع ، فقد ذكر فيه أسماء بعض تلك الكتب التي لفقوها ، والأناشيد والأغاني التي نظموها فيما ذكر لتهييج المسيحيين على الزحف من أوروبة إلى الشرق لإبادة المسلمين والقضاء على دينهم ، وكانت كل تلك المفتريات التي تقشعر منها الجلود ، ويكاد يتصدع لتصورها الحجر الجلمود ، تتلقى بالقبول والإذعان من جماهير الشعوب الأوروبية لصدورها عن رجال الكنيسة المعصومة عندهم ، ولا تزال سمومها تسري في أرواح الملايين من نابتتهم بما ينفثه فيها القسيسون المربون ، وما يكتبه وينشره المبشرون ، كما بينه اللورد هدلي الإنكليزي بعد إسلامه في كتاب مستقل ترجم بالعربية ، ولا نزال نرى في كل سنة من مفترياتهم بمصر وغيرها ما نجزم بأن الذين يدونونه في الكتب يعلمون أنه كذب وبهتان ، ونستدل بهذا على أنهم لا يدينون بالنصرانية نفسها ، لاستحالة إباحتها للكذب الذي هو شر الرذائل كلها .
زحفت الشعوب الأوروبية على سورية وفلسطين ومصر لإبادة المسلمين ، واقترفوا فيها باسم المسيح -مثال الكمال والطهارة والفضيلة والزهد والرحمة- من النقائص والأرجاس والرذائل والأطماع والقسوة ما لم يتدنس بمثله شعب من شعوب الوثنية ، ولا القبائل الهمجية في تاريخ البشر ، ثم عادوا من الشرق مخذولين مغلوبين مقهورين ، ولكنهم استفادوا من معرفة حال المسلمين من العلم والفضائل والعدل ما كان هو السبب لنهضة أوروبة الأخيرة في العلوم والفنون والسياسة ، يعترف بذلك فلاسفة الاجتماع والتاريخ منهم ، وأما رجال السياسة ودعاة النصرانية فلا يزالون يفترون على المسلمين في دينهم ودنياهم ، ولا تزال سياسة أوروبة مع المسلمين حرباً صليبية إلى اليوم{[1534]} .
أليس هذا الذي ذكرناه بالإيجاز سببا كافياً لجهل السواد الأعظم من شعوب أوروبة بحقيقة الإسلام ، وكتمان كثير من العارفين لما يعرفونه منه ، وتشويه رجال السياسة والدعاية الدينية له ، ومحاولة طمس نوره كلما لاح لهم شيء منه ؟ بلى ؛ وإنهم ليجدون من سيرة المسلمين الجغرافيين والخرافيين في هذا العصر ما يجعلونه حجة على الطعن في الإسلام نفسه ، بدعوى أن سوء حالهم ما جاءتهم إلا من تعاليم دينهم ، والحق أنها ما جاءتهم إلا من جهلهم له وتركهم لهدايته ، وإنهم ليجدون من الملاحدة الذين أفسدهم التفرنج ، ومن المنافقين والفاسقين عن دينهم من يشايعهم أو يؤيدهم في مطاعنهم .
زد على هذا سبباً ثالثاً وهو فشو البدع والخرافات في المسلمين ، وإقرار بعض الحكومات لها حتى الحكومة المصرية التي جعلت من أسباب مشاقتها لحكومة الحجاز بدعة المحمل ، والتي تأذن باحتفالات الموالد وأمثالها في المساجد .
أضف إلى هذا سبباً رابعاً هو علة لما قبله ، وهو ضعف رجال الدين الإسلامي أنفسهم ، وعجزهم عن إظهار حقيقة الإسلام لتلك الشعوب ولنابتة المسلمين العصرية أيضا بالبيان والحجج المناسبة لحال هذا العصر ، ومقاومة بعضهم للإصلاح العلمي والمدني ما استطاعوا ، ونفاق بعضهم للأجانب في البلاد التي استولوا عليها ، وهؤلاء شر آفات الإسلام وأعدى أعدائه وفتنة للذين كفروا تصدهم عنه{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} [ الممتحنة:60] .
هذا ملخص ما يصرف الأوروبيين وأمثالهم عن معرفة الإسلام والاهتداء به .
8الرجاء الجديد في اهتداء الإفرنج بالإسلام .
{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [ فصلت:53] .
كان نظام التربية والتعليم الذي يتولى أمره رجال الدين في بلاد النصرانية كلها -وحيث وجدت لهم مدارس وكنائس في غيرها- كان ولا يزال مهيمناً على العقول والقلوب أن يتسرب إليها شيء يخالف عقيدتهم ، فإن علموا شيئاً منها نفذ إليها بادروا إلى نزعه وإزالة تأثيره ، كما يبادر الأطباء إلى معالجة من يصاب بمرض معد أو جرح خطر .
بيد أن حرية الفكر وحب العلم اللذين تغلغلا في أوروبة بعد الحروب الصليبية قاوما هذه السيطرة الكنسية ، فوجد تعليم حر ، وتفكير حر ، وتصنيف حر ، ولكن التربية الحرة لا تزال قليلة وضعيفة بما للتأثير السياسي والديني من القوة والسلطان .
أعقبت هذه الحريات وما اقتضاه الأخصاء في فروع العلوم والمعارف من عناية بعض العلماء بدراسة الكتب الإسلامية ، وكان مما أثمرته سياحة العلماء من قبلها في بلاد الإسلام أن اطلع الأفراد بعد الأفراد من كل شعب من شعوب الإفرنج على كتب الإسلام الصحيحة ، وترجموا كثيرا من مؤلفاتهم العلمية ، وشاهدوا عبادات المسلمين وأحاطوا علما بتاريخهم ، وسمح اتساع حرية العلم لمستقلي الفكر منهم أن يصرحوا قولاً وكتابة بما علموا من ذلك ، فشهد الكثيرون من علماء القرن الماضي والحاضر بأن عقيدة الإسلام أكمل عقائد التوحيد والتنزيه التي يتقبلها العقل السليم بالتسليم ، وأن عباداته موافقة للفطرة البشرية ، وأن أحكامه عادلة ، وقد ألفوا في ذلك كتبا كثيرة فندوا فيها مطاعن رجال الكنيسة على الإسلام ، ومحمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام .
وقد نشرنا بعض هذه الشهادات في مواضع كثيرة من المنار ، من أهمها ما جاء في المجلد الخامس ( مقالات الإسلام والنصرانية ) للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ، وقد جمعت في كتاب مستقل .ومنها كتاب ( الدعوة الإسلامية ) للأستاذ أرنولد الإنكليزي ، وقد كتب فيلسوف التاريخ والاجتماع غوستاف لوبون الفرنسي رقعة بريدية لأديب تركي بعد الحرب الكبرى قال فيها أنه ألف كتابا كبيراً في ( حضارة العرب ) ليثبت لقومه أن العرب المسلمين أساتذة أوروبة كلها في مدنيتها الحاضرة وعلومها ، قال:ولكن التربية الإكليركية( الكاثوليكية ) المسيطرة على أكثر الشعب حالت دون علمه وإذعانه لذلك اه .ولا نزال ننشر بعض هذه الشهادات ، وكان آخرها ما نشرناه في هذا العام ( 1348 ) من مقدمة ترجمة القرآن للعالم السويسري( مسيومونتيه ) الذي أظهر فيها تعجبه من إيمان نصارى أوروبة بأنبياء بني إسرائيل ، وعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر من خبر نبوته ما هو خلاصة لما ورد في كتب الحديث الصحيحة والسيرة النبوية .
وإنما عثرت أفكار بعضهم ببعض المسائل التي عثرت فيها أقلام علماء المسلمين من المتكلمين والفقهاء كمسألة القضاء والقدر ، فلم يوفقوا لفهمها ، ولا لبيانها كما يجب ، وأنكر كثير منهم بعض المسائل المخالفة لتقاليدهم وعادتهم وتربيتهم كالطلاق وتعدد الزوجات ، وهي في الإسلام من مسائل الضرورات ، ثم قبلت جميع شعوبهم وحكوماتهم حكم الطلاق وأفرطوا فيه بما لا يبيحه الإسلام ، ولولا فشو الزنا في بلادهم لاضطروا إلى قبول تعدد الزوجات أيضا ، ولا سيما أهل أوروبة الذين اغتالت حرب المدنية الأخيرة زهاء عشرين مليونا من رجالهم .
وتصدى بعض المسلمين في هذا القرن للدعوة إلى الإسلام في بلاد الإنكليز ثم في غيرها ، فأسلم بعض الناس بدعوتهم ، على أن الدعوة إلى الإسلام لا تزال ضعيفة بضعف علم أكثر دعاتها وابتداع في بعض الهنود منهم ، وكما أسلم آخرون منهم باطلاعهم على ترجمة القرآن الحكيم بلغاتهم على كثرة ما في هذه التراجم من الخطأ والغلط ، كما أن كثيرا من نصارى الشرق يسلمون في كل عام ، ولكن بعض الوجهاء منهم وأصحاب العلاقات المالية والاجتماعية بعشائرهم وعشرائهم يكتمون إسلامهم ويخفون عبادتهم الإسلامية عنهم ، وقد اعترف لي واحد منهم ممن يلبسون البرنيطة بإسلامه بعد معاشرة طويلة كان يسألني فيها سؤال المستفيد عن بعض المسائل الدينية ، ويتلقى أجوبتي بالارتياح ، ولكنه اشترط علي كتمان خبره .
وكان رئيس من رؤساء الإدارة قائمقام في لبنان صديقا لوالدي ، وكان يزورنا فيكثر من هذه الأسئلة ، ثم مرض فعاده والدي بداره في مركز عمله فخلا به فاعترف له في هذه الخلوة بإسلامه واضطراره لكتمانه عدة سنين ، ثم قال وإنني أشعر الآن بقرب الأجل فأشهدك علي بأنني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وعلى هذه الشهادة أموت .ولو كان للإسلام دولة قوية عزيزة تحيي حضارته وتقيم شريعته لرأينا الناس من جميع الشعوب يدخلون فيه أفواجا .
هذا وأن الذين يعاشرون علماء المسلمين الذين يعرفون الإسلام الصحيح ويقدرون على بيانه من عقلاء الإفرنج المستقلي الفكر يعجبون مما يسمعونه منهم حتى ليشك أكثرهم في أنه هو الإسلام الذي جاء به محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم .
أذكر أنه قال لي إسكندر كاستفليس زعيم نصارى طرابلس الشام في عهده( وكان قنصلاً لروسية وألمانية فيها ) بمناسبة مذاكرة بيني وبينه بداره ، وكنت تلميذاً:إن عندكم من الفضائل مثل الجبال ، ولكنكم دفنتموها وأخفيتموها بسيرتكم ، وعندنا شيء قليل مددناه وكبرناه حتى ملأ الأرض ، مثل ما ورد في الإنجيل من «حب الله والقريب » .
وذكرت في مواضع من المنار أنني عاشرت رجلا من خيار الإنكليز الذين تقلدوا بعض أعمال الحكومة بمصر{[1535]} ، فكنت كلما ذكرت له شيئا من حقيقة الإسلام يتعجب ويقول لي:إنه هو يعتقد هذا ، أو هذا فلسفة لا دين ، وأنه قال لي مرة:إن كان ما تقوله هو الإسلام حقيقة فأنا مسلم ، وقال مرة أخرى مازحاً:إما أن أكون أنا مسلماً وإما أن تكون أنت كافراً ! ! وفسر هذا بكلمة ثالثة قالها في مجلس خلاصتها:إذا سألنا علماء الأزهر عما تقوله أنت والشيخ محمد عبده في الإسلام فوافقوا عليه فأنا أعلن إسلامي ، ولكني أرى أنكما أوتيتما من العلم والفلسفة العالية في الدين ما لا ينكره عالم عاقل تسندانه إلى الإسلام ، وما عليه المسلمون من الإسلام يباينه .قلت له:إنني مستعد لإثبات كل ما أقول لك في الإسلام بآيات القرآن .وكنا نتكلم في مسألة فاستدللت عليها بآية من سورة الروم ، ودللته عليها في ترجمة القرآن الإنكليزية ، ولكنه لم يصدق أن كل ما أقوله له كذلك .
ونشرت في المنار شهادة لورد كروم بنجاح الإسلام في عقائده القائمة على أساس التوحيد ونظامه المدني وعدله ، ثم نشرت شهادة لورد كتشنر لشريعة الإسلام بالعدل ، وبأنها خير للمسلمين من قوانين أوروبة .نشرت هاتين الشهادتين في أيام حياة اللوردين فكانتا مثار العجب لبعض الناس ؛ لأن رجال السياسة قلما يصرحون بمثل هذه الشهادة للإسلام ، وهم خصوم أهله .
وفي هذه الأيام حدثني تاجر مسلم مقيم في مدينة مانشستر الإنكليزية أنه حضر وعظا من قسيس الإنكليز الموحدين في كنيسته فكان من وعظه إثبات فضائل محمد صلى الله عليه وسلم ، والرد على مفتريات المبشرين وأمثالهم عليه ، ومنها زعمهم أنه كان شهوانيا همه في التمتع بالنساء .قال القس:إن من كان كذلك يحتقره جميع الناس ، ولا يمكنه أن يؤثر تأثيرا صالحا في قلوب الألوف والملايين من الناس ، فكيف أمكن لمحمد إذا أن يهدي هذه الأمة العظيمة ، وتنتشر في هدايته في الشعوب الكثيرة ؟ ثم إنه صلى بالناس وقرأ في صلاته شيئا من ترجمة القرآن .
الخلاصة:إن الإسلام هو الخلاصة الصحيحة لدين الله الحق على ألسنة أنبيائه عليهم السلام الذين لم يحفظ كتاب من كتبهم كله كما بلغوه لأقوامهم ، وما في أيديهم منها ينافي مصالحهم كتشديدات التوراة في أمور المعيشة والحرب ، وأثرة بني إسرائيل على البشر ، وتشديد الأناجيل في الزهد وترك الدنيا .وقد نسخ الله بالإسلام جل ما جاءوا به ؛ لأنه كان خاصاً بشعوبهم في أزمنتها ، وزاد عليها ما أكملها به على لسان خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ومبينا إياها أكمل البيان ، مؤيداً بأوضح البرهان ، مع أصول التشريع العام ، الموافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان ، وكان من براهين صحته ظهور هذه العلوم والحقائق على لسان رجل أميّ لم يقرأ ولم يكتب ولم يعاشر المتعلمين العارفين بالكتب السابقة .ومن معجزات كتابه الخالدةوراء إعجازه للبشر بعلومه وتشريعه وإخباره عن الغيب وببلاغته وأسلوبه الذي يعلوا جميع كلام البشرأن ما وصل إليه علم البشر من العلوم والحقائق السماوية والأرضية لم ينقض شيئا منه .
فلا وسيلة لإنقاذ العالم المدني العصري مما انتهى إليه من المفاسد المادية ، والفوضى الدينية والأدبية ، وتعارض المذاهب الرأسمالية والشيوعية ، إلا بهذا الدين الوسط كما يعترف الذين عرفوه في الجملة حتى من الماديين{[1536]} ،وقد قوي استعداد الشعوب الأوروبية للاهتداء به إذا أمكن بيانه لهم كما أنزله الله تعالى وبينه رسوله الأعظم بسنته المتبعة التي كان عليها أهل العصر الأول سليمة من البدع والآراء المذهبية والخرافات التصوفية ، وكان حكيما الإسلام السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده يعتقدان أن مآل الإفرنج إلى الإسلام ، إسلام القرآن لا إسلام مسلمي هذا العصر وكثير ممن قبلهم ، وأنه ربما آل الأمر إلى أخذ الشعوب الإسلامية بالوراثة -دون العلم والحكمة- إلى أخذ الإسلام عنهم .
وها نحن أولاء نرى كثيرا من المسلمين يأخذون علوم الإسلام عن المستشرقين من الإفرنج ، وبدؤوا يقلدون دولة الولايات المتحدة في أمريكة بالدعوة إلى ترك شرب الخمر .
إن الإفرنج -ولا سيما أولي التربية الحرة الاستقلالية منهم- يقربون من الإسلام يوما بعد يوم ، وإنما يرجى اهتدائهم به في أقرب وقت بتأليف جمعية غنية لنشر دعايته في أوروبة وأميريكة ، وهذا ما كنا شرعنا فيه منذ بضع عشرة سنة ، إذ أنشأنا جمعية الدعوة والإرشاد ، ومدرسة الدعوة والإرشاد لها ، وكنا وفقنا لتقرير وزارة الأوقاف الإسلامية بمصر النفقة على المدرسة ، ولكن الدسائس الأجنبية فازت بحمل وزارة الأوقاف على إلغاء هذه الإعانة في زمن الحرب الكبرى ، ولم يوجد من أغنياء المسلمين الأغبياء السفهاء ولا من أمرائهم المسرفين المتكبرين من يقوم بها ، ونحمد الله تعالى أن لاح في مهد الإسلام نور جديد لإحياء هذا الدين ، هو الآن محل الرجاء لجميع عقلاء المسلمين المصلحين{ ولتعلمن نبأه بعد حين} [ ص:88] .