قال تعالى:
وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( 58 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ( 59 ) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 60 ) .
النفاق أصناف وضروب ، يعلوا وينزل ، وأعلاه من يظهر الإيمان بالله ، ويبطن الكفر ، وهؤلاء كانوا بالمدينة ، وعلا شأن الإسلام ، فكان من اليهود والوثنيين هؤلاء الذين أعلنوا الإسلام خوفا ، وأبطنوا الكفر ، غيظا وعداوة وبغضا ، ومن النفاق ألا يستقر الإيمان في قلبه كأولئك الأعراب الذين قالوا أسلمنا ولما دخل الإيمان في قلوبهم . ومن الأعراب من كانوا يأخذون ظواهر القرآن ولا يطيعون ، كما قال تعالى:{ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله . . . . ( 97 ) ، وكل هؤلاء تشملهم كلمة المنافقين ، ولذلك كان الحسن البصري يقول:إن مرتكب الكبيرة منافق ؛ لأنه عمله يناقض قوله ، فكما أن من ينكر بقلبه ويؤمن بلسانه منافق ، فكذلك من يعلن الإيمان ، ويصدق بقلبه ، ولكن يناقض عمله قوله ، والإيمان كما يقول الجمهور من علماء العقائد ، اعتقاد وعمل ، وهو الإيمان الكامل عند جميع العلماء اتفقوا عليه .
بعد هذا نتكلم في معنى النص الكريم:{ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} اللمز:العيب فالرجل الهمزة أو المرأة اللمزة العياب والعيابة ، واللمز يشمل العيب باللفظ الصريح ، ويشمل العيب بالتعريض والتلميح ، والوخز في الكلام:وقال تعالى:{ ويل لكل همزة لمزة ( 1 )} ( الهمزة ) ، وقالوا إن اللمزة من يعيب في وجه من يعيبه ولو بلحن القول ، والهمزة من يعيب في غيبه وفي غير محضره ولا يواجه من يعيبه .
والضمير في{ منهم} يعود إلى المنافقين ، و{ من} تدل على التبعيض ، وإنه عمل بعضهم ، ويظهر أنه ليس من الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، بل هو من الذين يعبدون الله على حرف ، الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى:{ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ( 11 )} ( الحج ) ، وكذلك هؤلاء المنافقون الذين عابوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال الله تعالى فيهم:{ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
( الفاء ) تدل على أن ما بعدها بيان أو إشارة إلى نوع عينهم ، وهو بيان لنفوسهم إن أعطوا من المال بحق رضوا واطمأنوا وقالوا إنها قسمة عادلة ، واستقاموا على الطريقة ، وإن لم يعطوا لعدم استحقاقهم سخطوا فهم طامعون في أن يأخذوا بغير حق . و{ إذا} تدل على أن سخطهم لا يرتبط بمنطق الأمور ، فهم فاجئوا أهل الحق به ، والدليل على المفاجأة{ إذا} فهي تدل على المفاجأة .
والمفاجأة تدل على أنه غير منطقي ؛ لأن من يرضى بالحق عند العطاء ، لا يصح أن يغضب إن منع بحق ، ولكن النفس المنافقة تريد دائما أن تحتجز الخير لنفسها ، ولا تلتفت إلى حق غيرها ، فآية المؤمن أن يعرف حق غيره كما يعرف حق نفسه ، ومن علامة المنافق النفسية ألا يفكر في غيره ، فكل من لا يلتفت إلى حق غيره فيه شعبة من نفاق .
وما روي في معنى هذه الآية ، ممن كانوا يلزمون في الصدقات أن أبا الجواظ من المنافقين في أعلى درجات النفاق قال:ألا ترون إلى صاحبكم ، إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له وقد فهم أنه يعيب رعاة الغنم قال له:( لا أبا لك ، أما كان موسى راعيا ، أما كان داود ) . فلما ذهب أبو الجواظ هذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:( احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون ) ( 1 ){[1240]} .
وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله .
وروي في الصحيحين عن أبي مسلمة أن ذا الخويصرة واسمه حرقوص اعترض علىالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قسم غنائم حنين ، فقال:اعدل فإنك لم تعدل فقال صلوات الله وسلامه عليه:( لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ) ، ثم قال:( إنه يخرج من ضئضئى هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء ) ( 2 ){[1241]} .
ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول:( والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكم ، وإنما أنا خازن ) ( 1 ){[1242]} هذا بعض ما روي عن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في أولئك المنافقين الذين كانوا يلمزون أطهر من في الوجود – في الصدقات .
ويجب أن ننبه هنا إلى أن الصدقات غير الغنائم ، فالغنائم تقسيم أموال لمستحقيها بمعنى الغنم والفتح يأخذها الفاتحون بملكية تثبت لهم بمقتضى الجهاد ، أما الصدقات فإنها تكون معونات تعطى لمصارف معينة يحتاج إليها أهلها .