وإن دأب هؤلاء الذين يعتذرون عن مواقف الشدة بغير عذر أو بعذر كاذب أن يحسبوا أن كل كلام يقبل ، سواء أكان مقبولا أم كان غير مقبول ، فكانوا يفعلون ما يفعلون ، ويحسبون أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل معاذيرهم الكاذبة ، وإن فساد قلوبهم وعقولهم يجعلهم يتصورون أن طيب القلب يقبل كل ما يدلون به ، ولذلك أكثروا من الاعتذار عما يفعلون ، كما يكثرون من الاعتذار عن النفور إلى الجهاد ، ولذا قال تعالى عنهم:{ يعتذرون إليك إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون94} .
ما كانوا يتوقعون أن يعود النبي صلى الله عليه وسلم موفورا منصورا ، بل كانوا يتوقعون أن ينال منه الرومان هو ومن معه من المؤمنين ، حتى لقد كانوا يقولون في مجالسهم ، إن الرومان سيكبلون العرب ، والمنافق مسرف في القوم دائما ، ولكنهم رأوهم قد جاءوا منتصرين ، وتخاذل الرومان عن لقائهم ، وقد راعهم ذلك ، فبدءوا يعتذرون كاذبين ، كما اعتذروا في التخلف كاذبين ، ولذا قال تعالى:{ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} سالمين أقوياء مسيطرين على أنفسكم أحرارا غير مكبلين ، والاعتذارات كاذبة كقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فيأمر الله تعالى نبيه بقوله تعالت كلماته:{ قل لا تعتذروا} فكان النهي عن الاعتذار ؛ لأنه كذب ، والتمادي في الاعتذار الكاذب تماد في الكذب ، والتمادي في الكذب فجور وهو غير مقبول ، ولذا بين السبب فقال:{ لن نؤمن لكم} ، أي لن نسلم لكم بما تقولون من أكاذيب ، ونحن نكذبها لأن النبأ اليقين قد جاءنا عن الله ، ولذا قال تعالى في سبب التكذيب وعدم التسليم لهم{ قد نبأنا الله من أخباركم} النبأ:الخبر الخطير ، و{ من} هنا للتبعيض ، أي قد نبأنا الله تعالى ببعض أخباركم وهو ما يتصل بنياتكم وبقلوبكم ، وبالأفعال التي تقصدون بها إفساد عزائم المؤمنين ، وتخذيلهم عن المجاهدين ، وحقيقة ما تقصدون باعتذاراتكم وأنها كاذبة .
ثم قال تعالى:{ وسيرى الله عملكم ورسوله} ( السين ) لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل ، أي أنه ليس لكم أن تتكلموا في الماضي ، فالله تعالى قد علمه من قبل ، ونبأنا به ، وإنما الأمر الحاضر ،{ وسيرى} أي سيشاهد ، أو سيعلم علم المشاهدة أو الواقع الله ورسوله .
وهذا الكلام السامي يفيد أمورا ثلاثة:أولها – أنه لا يصح أن تشغلوا أنفسكم بما استدبرتم من أمور ، بل أشغلوها بما تستقبلون من أموركم ، وثانيها – التهديد بأن الله تعالى ورسوله يعلمان أموركم في المستقبل علما مؤكدا لا مناص من أن تتخلصوا من تبعاته ، وإن الله تعالى سيحبط أعمالكم ، وثالثها- رجاء أن يدخل الخير قلوبكم ، فتتوبوا عما أنتم عليه ، ويصلح بالكم ، فلا تعتذروا عن التخلف كاذبين .
وينذرهم الله سبحانه وتعالى الإنذار الشديد فيقول سبحانه:{ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة} ( ثم ) للترتيب والتراخي ، والتراخي هنا في موضعه ؛ لأن فيه الانتقال من الدار الفانية إلى الدار الباقية ، فيه الانتقال من دار العمل إلى دار الجزاء ، وقوله تعالى:{ تردون} تفيد أمرين:أحدهما- أنهم يذهبون إلى هذه الدار غير مختارين ، بل يردون إليها مدفوعين ، ثانيهما- في التعبير بلفظ ما يفيد معنى الرجوع إليها بعد هذه الحياة ، وكأنهم في الدنيا في سفر يعود بعدها المسافر إلى حيث إقامته وموطنه ، فالإنسان ما خلق عبثا ، إنما خلق لأجل البقاءفي الآخرة ، فهي وطنه الأصلي إما نعيما مقيما ، وإما عذابا أليما .
والمراد في الآخرة إلى الله تعالى حيث يلقاه العباد ويلقاهم بأعمالهم التي لا تخفى عليه منها خافية ، فلا نفاق ولا كذب ولا مراءاة ، ولذا قال تعالى:{ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة} الغيب هو المغيب أو المستور ، وعالم الشهادة هو العالم الظاهر ، فهو يعلم السر والجهر ويعلم الحاضر والغائب ، يعلم ما كان وما يكون .{ فينبئكم بما كنتم تعملون} و( الفاء ) هنا للترتيب والتعقيب ؛ إذ إن الإنباء يكون عقب الرجوع إلى الله تعالى ، وذلك دليل على تأكد وقوع ما وعد به وتحققه وأنه لا مفر من قيام القيامة ، ونزول ما وعد الله تعالى به .
والإنباء في هذا الحال ، ليس بالأقوال ، ولكن بالرؤية والأفعال فهو مجاز ، يرون أعمالهم ، تنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يفعلون ، وتشهد عليهم ألسنتهم وجوارحهم وأفعالهم ، فالإنباء فيه وعد ووعيد ، فيه أن يعلم الناس ما فعلوا ويروا جزاء ما فعلوا حاضرا مهيأ يستقبلهم ويستقبلونه .