ابتدأ المنافقون بالاعتذار ليصدق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين معاذيرهم ؛ لأنهم رأوهم جاءوا سالمين ، وسولت لهم نفوسهم أنهم سيجيئون مقهورين مكبلين في الأصفاد وزين ذلك في قلوبهم ، فلما جاءوا بالظفر والقوة ابتدءوا فاعتذروا فلم يقبل لهم عذر ، فنزلوا عن بعض ما رغبوا إلى أن يعرضوا عنهم ، وينسوا ذلك الأمر الذي وقع ليستقبلوا معاملة جديدة كما يجرى في وهمهم ، وكما يريدون أن يوهموا به المؤمنين ، وحكى الله تعالى عنهم بقوله تعالت كلماته:{ سيحلفون بالله لكم اذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون95}( السين ) لتحقق الفعل في المستقبل ،و{ انقلبتم} معناها رجعتم ، وعبر عن الرجوع بالانقلاب ؛ لأن المجاهد سائر في طريقه إلى الأمام فإذا أراد العودة انقلب من السير إلى الأمام إلى العودة إلى الوراء ، والتعبير بالانقلاب يفيد العودة مختارا غير مقهور ولا مهزوم ولا متراجع .
وحلفهم ليس للاعتذار ، بل هو لطلب السكوت عنهم ، ولذا قال تعالى:{ لتعرضوا عنهم} أي تسكتوا عنهم فلا تلومهم ولا تعيرهم ولا تذكروهم بما رضوا به من قبل من القعود مع الخوالف ، وقولهم ذرنا نكن مع القاعدين . طلبوا أن يسكتوا عنهم فأمر الله تعالى المؤمنين بأن يستجيبوا لهم لا إرضاء لنفوسهم ، ولكن لأنه لا جدوى في لومهم ، ولأن الله تعالى يريد أن يسكتوا عنهم حتى لا يكثر قول النفاق منهم ، ولذا قال:{ فأعرضوا عنهم إنهم رجس . . .} فأعرضوا عنهم ، فلا تلومهم ، ولا توبخوهم لأنهم رجس ، أي أنجاس قذرهم لا يطهره لوم ولا عتاب ، كالشيء الذي يكون نجس العين مثل الخنزير ، لا يطهره الماء ، بل الماء ينجس به ، وكثرة القول معهم في أنجاسهم يشيع قول السوء في الذين آمنوا .
وأنهم وراءهم العذاب الأليم ، فقال تعالى:{ ومأواهم جهنم جزاء بما كان يكسبون} أي مستقرهم الذي يستقرون فيه ويأوون إليه جهنم جزاء بما كسبوه في الدنيا من آثام في أقوالهم وبثهم الشر والفساد بين المؤمنين وسعيهم وتثبيطهم لهمم المؤمنين .