عاد الخطاب إلى المشركين بقرينة قوله:{ لما تصف ألسنتكم الكذب} فالجملة معطوفة على جملة{ وضرب الله مثلاً قرية}[ سورة النحل: 112] الآية .
وفيه تعريض بتحذير المسلمين لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية ،فربّما بقيت في نفوس بعضهم كراهية أكل ما كانوا يتعفّفون عن أكله في الجاهلية .
وعلّق النهي بقولهم:{ هذا حلال وهذا حرام} .ولم يعلّق بالأمر بأكل ما عدا ما حُرم لأن المقصود النهي عن جعل الحلال حراماً والحرام حلالاً لا أكل جميع الحلال وترك جميع الحرام حتى في حال الاضطرار ،لأن إمساك المرء عن أكل شيء لكراهيَةٍ أو عَيْف هو عمل قاصر على ذاته .وأما قول:{ وهذا حرام} فهو يفضي إلى التحجير على غيره ممن يشتهي أن يتناوله .
واللام في قوله:{ لما تصف} هي إحدى اللامين اللّتين يتعدّى بهما فعل القول وهي التي بمعنى ( عن ) الداخلة على المتحدّث عنه فهي كاللام في قوله:{ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا}[ سورة آل عمران: 168] ،أي قالوا عن إخوانهم .وليست هي لام التقوية الداخلة على المخاطب بالقول .
{ وتصف} معناه تذكر وصْفاً وحالاً ،كما في قوله تعالى:{ وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى}[ سورة النحل: 62] .وقد تقدم ذلك في هذه السورة ،أي لا تقولوا ذلك وصفاً كَذباً لأنه تقَوّل لم يقله الذي له التحليل والتحريم وهو اللّهُ تعالى .
وانتصب{ الكذب} على المفعول المطلق ل{ تصف} ،أي وصفاً كذباً ،لأنه مخالف للواقع ،لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوا ولا نصب لهم دَلِيلاً عليه .
وجملة{ هذا حلال وهذا حرام} هي مقول{ تقولوا} ،واسم الإشارة حكاية بالمعنى لأوصافهم أشياء بالحِلّ وأشياء بالتحّريم .
و{ لتفتروا} علة ل{ تقولوا} باعتبار كون الافتراء حاصلاً ،لا باعتبار كونه مقصوداً للقائلين ،فهي لام العاقبة وليست لام العلّة .وقد تقدّم قريباً أن المقصد منها تنزيل الحاصل المحقّق حصولُه بعدَ الفعل منزلةَ الغرض المقصود من الفعل .
وافتراء الكذب تقدّم آنفاً .والذين يفترون هم المشركون الذين حرموا أشياء .