تفريع على جملة{ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين}[ الأنبياء: 14] ،فاسم{ تلك} إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى{ قالوا يا ويلنا}[ الأنبياء: 14] ،وتأنيثه لأنه اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم ،أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يَدعون بها على أنفسهم .
وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى{ لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه}[ الأنبياء: 13] لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر ،بخلاف الكلام المسوق جواباً فإنه لا داعي إلى إعادته .
والمعنى: فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم .
وسمي ذلك القول دعوى لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل ،والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى{ دعواهم فيها سبحانك اللهم} في[ سورة يونس: 10] .أي فما زال يُكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفّوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد ،أي أهلكناهم .
وحرف{ حتى} مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى{ فما زالت تلك دعواهم} .
والحصيد: فعيل بمعنى مفعول ،أي المحصود ،وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا .
والحَصد: جَزُّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد .وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد .
والخامد: اسم فاعل من خَمدت النار تخمُد بضم الميم إذا زال لهيبها .
شُبهوا بزرع حُصِد ،أي بعد أن كان قائماً على سوقه خضرا ،فهو يتضمن قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة ،كما شبه بالزرع في قوله تعالى:{ كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع} في سورة[ الفتح: 29] .ويقال للناشىء: أنبته الله نباتاً حسناً ،قال تعالى:{ وأنبتها نباتاً حسناً} في سورة[ آل عمران: 37] .فللإشارة إلى الشبهين شَبَه البهجة وشبَه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحَصيد .
وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس كما شبه بالنار في قوله تعالى:{ كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} في سورة[ المائدة: 64] ،وقوله تعالى:{ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} في سورة[ البقرة: 17] .فحصل تشبيهان بليغان وليسا باستعارتين مكنيتين لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوّم حقيقة الاستعارة خلافاً للعلاَّمتين التفتزاني والجرجاني في « شرحيهما للمفتاح » مُتمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى{ جعلناهم ،} فجَعَلا ذلك استعارتين مكنيتين إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهب قوتُها وحذف المشبهُ بهما ورُمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود فكان{ حصيداً} وصفاً في المعنى للضمير المنصوب في{ جعلناهم ،} فالحصيد هنا وصف ليس منزلاً منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى{ وحَبّ الحصيد}[ ق: 9] ،وبذلك لم يكن قوله تعالى{ حصيداً} من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى{ خامدين} الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر ،ومبنى الاستعارة على تناسي التشبيه .وهذا تكلف منهما ولم أدر ماذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف .
وانتصب{ حصيداً خامدين} على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجَعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر ،فإن مفعولي ( جعل ) أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفاً لأولهما كما هو ظاهر .