جملة{ هيهات} بيان لجملة{ يَعِدُكم} فلذلك فُصلت ولم تعطف .
و{ هيهات} كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضاً .وقرأها الجمهور بالفتح .وقرأها أبو جعفر بالكسر .وتدل على البعد .وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثاً كما جاء في شعر لحُميد الأرقط وجرير يأتيان .
واختلف فيها أهي فعل أم اسم ؛فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن ( هيهات ) اسم فعل للماضي من البُعد ،فمعنى هيهات كذا: بعُد .فيكون ما يلي ( هيهات ) فاعلاً .وقيل هي اسم للبُعد ،أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في « تفسيره » .
قال الراغب: وقال البعض: غلط الزجاج في « تفسيره » واستهواه اللام في قوله تعالى:{ هيهات هيهات لما توعدون} .
وقيل: هيهات ظرف غير متصرف ،وهو قول المبرد .ونسبه في « لسان العرب » إلى أبي علي الفارسي .قال: قال ابن جني: كان أبو علي يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل مثل صَهْ ومَهْ ،وأُفتي مرة بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال .
وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء ،وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء ،وأنها لا تنون تنوين تنكير .
وقد ورد ما بعد ( هيهات ) مجروراً باللام كما في هذه الآية .وورد مرفوعاً كما في قول جرير:
فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهلُهُ *** وهيهاتَ خِلّ بالعقيق نحاوله
وورد مجروراً ب ( مِن ) في قول حميد الأرقط:
هيهاتِ من مُصبَحها هيهاتِ *** ههياتِ حِجْرٌ من صُنَيْبِعَاتِ
فالذي يتضح في استعمال ( هيهات ) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعاً على تأويل ( هيهات ) بمعنى فعل ماض من البُعد كما في بيت جرير ،وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجروراً باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق ( هيهات ) من الكلام لأنها لا تقع غالباً إلا بعد كلام ،وتجعل اللام للتبيين ،أي إيضاح المراد من الفاعل ،فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر .وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل .وإذا ورد ما بعدها مجروراً ب ( مِن ) ف ( مِن ) بمعنى ( عن ) أي بَعُد عنه أو بُعداً عنه .
على أنه يجوز أن تؤوّل ( هيهات ) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنياً جامداً غير مشتق .ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر ،وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره .
وجاء هنا فعل{ توعدون} من ( أوعد ) وجاء قبله فعل{ أيَعِدكم} وهو من ( وَعَدَ ) مع أن الموعود به شيء واحد .قال الشيخ ابن عرفة: لأن الأول: راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعداً ،والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد اه .
وأقول: أحسن من هذا أنه عبَّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك ،فإن إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا ،فذكر الفعلان على التوزيع إيجازاً .