عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق .جمعت هذه الآية استدلالاً وتمثيلاً وتثبيتاً ووعداً ؛فصريحُها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي ،وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين: أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج .وتمثيلُ الإيمان بالعذْب الفرات والشرك بالملْح الأُجاج ،وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخاً يحفظ العَذْب من أن يكدره الأُجاج ،كذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسّوا كفرهم بين المسلمين .وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله:{ لن يضروكم إلا أذى}[ آل عمران: 111] .وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك .
ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عَقِب جملة{ فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً}[ الفرقان: 52] أكملُ حسن .وهي معطوفة على جملة{ وهو الذي أرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته}[ الفرقان: 48] .ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة .ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين .
والمرج: الخلط .واستعير هنا لشدة المجاورة ،والقرينة قوله:{ وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً} .والبحر: الماء المستبحر ،أي الكثير العظيم .والعذب: الحلو .والفرات: شديد الحلاوة .والمِلح بكسر الميم وصف به بمعنى المالح ،ولا يقال في الفصيح إلا مِلح وأما مَالح فقليل .وأريد هنا ملتقى ماء نهرَي الفرات والدجلة مع ماء بَحر خليج العجم .
والبرزخ: الحائل بين شيئين .والمراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء العذْب فيه بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ويبقى كلاهما حافظاً لطعمه عند المصبّ .
و{ حِجْرا} مصدر منصوب على المفعولية به لأنه معطوف على مفعول{ جعل} .وليس هنا مستعملاً في التعوذ كالذي تقدم آنفاً في قوله تعالى{ ويقولون حِجْراً محجوراً}[ الفرقان: 22] .و{ محجوراً} وصف ل{ حجراً} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل ألْيَل .وقد تقدم في هذه السورة .ووقع في « الكشاف » تكلف بجعل{ حجراً محجوراً} هنا بمعنى التعوّذ كالذي في قوله{ ويقولون حجراً محجوراً}[ الفرقان: 22] ولا داعي إلى ذلك لأن ما ذكروه من استعمال{ حجراً محجوراً} في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك .