وقد ذكر سبحانه آياته في خلقه الدالة على قدرته القاهرة ، وإبداعه الباهر ، فقال عز من قائل:
{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} .
الضمير يعود إلى الله جل جلاله ، ومرج ، لها معنيان وردا في لغة العرب ، المعنى الأولخلى وأرسل ، والمعنى الثانيخلط من غير امتزاج ، وإدخال أحدهما في الآخر ، وقبل أن نخوض في معنى الكلمات والأسلوب نقرر أن هذه الآية من دلائل الإعجاز ، لأن محمدا لم ير البحار التي تمخر عبابها السفن ، فذكره سبحانه وتعالى لخواصها في القرآن دليل على أنه ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يرها ولم يعرفها ، ودليل على أن الكلام لله تعالى خالق البحر واليابس ، والأنهار والبحار ، وهو بكل شيء عليم .
والمعنيان للمرج يستعملان في هذا المقام ، فالله سبحانه وتعالى خلى البحرين يجريان كل منهما في مجراه من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر ، وهما غير متجاورين أحيانا ، وأحيانا يكونان متجاورين يختلطان ويتجاوران ولا يمتزجان ، والبحران هما النهر العظيم كالدجلة والفرات والنيل وسيحون وجيحون وغيرها من الأنهار العظيمة الذي يخليها الله تعالى ويرسلها في المروج ، فتنبث الزرع نباتا وغراسا ، ويشرب منها الناس ، ويسقون دوابهم وأنعامهم ، والبحر الثاني هو البحر الملح ، كبحر الروم وبحر القلزم ، وبحر الهند ، وبحر الظلمات وغيرها ، والأول عذب فرات ، والثاني ملح أجاج ، أي ملح شديد الملوحة ، وفيه أحيانا دفء ، وفيه نعم لا تحد ، ففيه الجواهر والياقوت والمرجان ، وفيه اللحم الطيب ، وهواؤه فيه مواد مطهرة للصدر ، فيه اليود ، ومنه تنبعث الريح ، وفيه تجري البواخر كالأعلام وفي هذا بيان نعمة الله تعالى في الماء العذب الفرات الذي يكون لسقي الأرض وإحياء نباتها وغرسها .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير عجائب الله تعالى في البحر الأجاج ، فذكر ما يكون فيه مد وجزر تبعا للقمر ، فقال رضي الله عنه في تفسير{ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}:أي مالح مرّ زعاق لا يستساغ كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب والبحر المحيط .
وأخذ يضرب الأمثال حتى قال:وما يشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجزر ، ففي أول كل شهر يحصل مد وفيض فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى حالتها الأولى ، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد لليلة الرابعة عشرة ، ثم شرع في النقص فأجرى الله سبحانه وتعالى تلك العادة .
وإن نعم الله تعالى في البحار كما ذكرنا عظيمة ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال:( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) .
وقد أشار سبحانه إلى أن كلا من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج كلاهما محجوز عن صاحبه ، بل يأخذ الإنسان من كل منهما منافعه ونعمه من غير أن يختلط أحدهما بالآخر ، فيختلط الملح بالعذب الفرات ، فلا ينتفع الإنسان بشربه ، ولا الزرع بسقيه .
ولذا قال:{ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} أي جعل بينهما حاجزا مانعا ، وحجرا ، أي حدا ، وهو بمعنى محجوز ، كنقض بمعنى منقوض ، وأكد سبحانه المنع ، فقال:{ وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} أي حدا ممنوعا لا يمكن أن يعدو أحدهما .
وقد قلنا إن{ مرج} هنا بمعنى خلا وأرسل ، وقد بينا معنى مرج البحرين على ذلك المعنى ، وهي أيضا بمعنى خلط وجاور من غير أن يمتزج الماءان كل منهما بالآخر مع أن الماء سريع السيران ، ويتم الامتزاج فيه ، لكن في النوعين من الماء نجدهما يتجاوران مختلطين بالجوار غير سائل أحدهما في الآخر ، فتجد في مصبات الأنهار حيث يختلط ماء النهر وتجاور ماء البحر ، تجد بينهما مانعا حسيا يكون كل واحد منهما متميزا بحيزه لا يعدوه ؛ لأن ماء النهر خفيف ، والماء الملح ثقيل فكلاهما لا يمتزج بالآخر ، وإن كان ماء البحر على ماء النهر ، ولذا قال تعالى:في هذا النوع من المرج{ مرج البحرين يلتقيان ( 19 ) بينهما برزخ لا يبغيان ( 20 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 21 )} [ الرحمن] .