وإذا كان إنذار الناس أجمعين حقا على النبي واجبا عليه ، كان لابد من الجهاد ، ولذا قال تعالى:
{ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ( 52 )} .
الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر ، وقد أمر تعالى بأمرين:
الأمر الأولألا تطع الكافرين ، لأنه منذر لهم ، والطاعة تكون بتخاذله في الدعوة ، وممالأتهم فيما يعبدون ، وذلك مستحيل أن يكون من محمد المبعوث رحمة للعالمين والذي جاء لإصلاحهم ، فلا يصح أن يعود إلى مداهنتهم في الحق ، وإنما ذلك أمر لأتباعه صلى الله عليه وسلم من بعده ، ومن هم معه في حال حياته ، وذكر الكافرين بالاسم الظاهر لبيان أن طاعتهم طاعة للكفر ، فكان ذلك تأكيد النفي ببيان سببه .
والأمر الثانيجهادهم ، والجهاد بذل الجهد في مقاومة ضلالهم ، وبيان الحق الذي يدعو إليه ، والإصرار عليه ، والجهاد كان في مكة بالصبر على الدعوة إلى الإيمان ، والأذى في سبيلها ، والاستهزاء والسخرية بها ، وألا ينى عن الإعلام بها لمن لم يكن يعلم ، وقد حقق النبي وأصحابه ذلك في مكة ، فقد صبروا وصابروا ، وتعرض النبي صلى الله عليه وسلم للقبائل بعد أن ذهب إلى الطائف وردوه ردا منكرا ، تعرض للقبائل في موسم الحج ، حتى كان الأوس والخزرج من أهل يثرب ، إذ وجدوا فيه منجاتهم مما هم فيه من عداء بينهم ، وحرب مع اليهود ، فهاجر إليهم ، فكانوا له أنصارا ، وكان الجهاد بالمنازلة بعد الجهاد بالمصابرة .
ووصف الله تعالى المطلوب بأنه جهاد كبير ، لأن المصابرة أمر عظيم ، وبها قام المسلمون ، وتكونت الخلية الأولى من أهل الوحدانية . وحملوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عبء الجهاد في دوره الثاني ، وكان الجهاد كبيرا ، لأنه كان في كل أدوراه بالصبر ، وقوله:{ به} أي القرآن ببيانه والتمسك به ، فإنه في ذاته قوة ، وإنه بهذا يشير إلى وجوب الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيلها والمصابرة ، وهو أمر كبير إلا على الخاشعين ، وإن كبر الجهاد ليس بكثرة المقتولين ، وإنما كبره يكون بالصبر عليه ، وإرادة الله تعالى فيه ، وتحمل الأذى والرضا بالأذى ، ما دام يوصل إلى الغاية ، وهي أن تكون كلمة الله تعالى هي العليا .