وبعد أن بين سبحانه ما في الكون من عجائب وبدائع بادية للعيان ، ويدرك بعضها الجنان عاد بنا إلى الإنسان المخاطب بالتكليف فقال:
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} .
الضمير{ هو} يعود إلى الله جل جلاله خالق الوجود كله جليله ودقيقه ، وفي هذه الآية يقول عز وجل أنه خلق من الماء بشرا ، ونجد في النص تفاوتا بين الماء المخلوقه ، والمخلوق منه البشر ، فهذا ماء ظاهر أنه لا حياة فيها يكون منه بشر له حياة وحس ظاهر وخفي ، والماء لا يتألم ، والبشر يتألم ، ومع هذا التغير الظاهر كان المخلوق والمخلوق منه موجودين في كيان واحد ، وما ذلك إلا بقدرة العليم الحكيم الذي يغير ولا يتغير ، ويحول ولا يتحول ، وقد خلق البشر الحي الحساس من الماء مرتين:أولاهماأنه ككل حي متحرك ينمو كان من الماء ، فالماء كان منه الزرع والثمار وغيرهما ، والإنسان كان من النبات ، ونما من الحيوان ، كما قال تعالى:{ وجعلنا من الماء كل شيء حي . . . ( 30 )} [ الأنبياء] ، وخلق من الماء وهو المنى ، وما هو إلا ماء مهين ، لا يعبأ به النظر ، وأشار سبحانه إلى أن هذا الذي كان منه الماء يتوالد ، ويتلاحم البشر في الأسر والقبائل ، والشعوب ، ولذا قال مشيرا إلى هذا التوالد ، فقال:{ فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} وهذا فيه إشارة إلى الصلات الإنسانية التي تربط الإنسان ، وتكون منها المودة الراحمة الواصلة . إما بتوالد نسبي يجمعه الأصل ، والنسب ، وإما بسبب صهري ، ولقد ذكر الزمخشري أن ذكر النسب والصهر والسبب إشارة إلى أن العلاقة الإنسانية تكون بنسب الرجال ، أو بالمصاهرة التي تكون بالنساء إذ تكون بالمزاوجة ، والمرأة هي السبب في علاقتها ، كما قال تعالى:{ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ( 39 )} [ القيامة] .
وإن ذاك كله بقدرة الله تعالى وإبداعه في هذا الوجود ، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله عز من قائل ،{ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} وكان ربك خالقك الذي أنشأك ويكلؤك ويرعاك قادرا قد علت قدرته كأقصى ما يتصور العقلاء ، و( كان ) هنا هي الدالة على الاستمرار والدوام ، أو الكينونة الدائمة .