في الآية التاليةبمناسبة البحث في نزول المطر ،وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء ،فيقول تعالى: ( وهو الذي خلق من الماء بشراً ) .
حقاً إن النحت في الماء ،وخلق صورة بديعة كهذه على الماء ،دليل على عظمة قدرة الخالق ،وكان الكلام في الآيات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر ،و الكلامهنا عن مرحلة أعلى ،يعني خلق الإنسان من الماء .
و بين المفسّرين أقوال في المراد من الماء هنا:
ذهب جماعة أنّ المقصود من «بشر » هو الإنسان الأول ،يعني آدم( عليه السلام ) ،ذلك لأنّ خلقه كان من «طين » يعني عجيناً من ماء وتراب ،إضافة إلى أن الماء كان أوّل موجود خلقه الله تعالى طبقاً للرّوايات الإسلامية ،وخلق الإنسان من ذلك الماء ،وتنكير «بشر » شاهد على هذا المعنى .
و ذهب جماعة آخرون أن المقصود من «الماء » هو ماء النطفة ،حيث يتكون جميع الناس منه بقدرة الخالق ،ومع امتزاج نطفة الرجل «الحيمن » الذي يسبح في الماء مع «البويضة » نطفة المرأة ،تتكون أول نواة لحياة الإنسان ،يعني الخلية الإنسانية الحية الأُولى .
لو تدبّر الإنسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها ،فسيشاهد الكثير من آيات عظمة الحق وقدرة الخالق فيها ،حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى .
الشاهد على هذا التّفسير ،جملة وردت في آخر الآية ،وسنشرحها ( فجعله نسباً وصهراً ) .
فضلا عن هذا ،فلا شك أنّ الماء يشكل القسم الأكبر من وجود الإنسان ،بالصورة التي يمكن القول أنّ المادة الأساس لوجود أي إنسان هي الماء ،لهذا فإن مقاومة الإنسان إزاء العطش قليلة جدّاً ،في حين يستطيع الإنسان أن يقاوم أيّاماً وأسابيع حيال قلّة المواد الغذائية .
و يحتمل قوياً أيضاً ،أنَّ جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الآية ،أي أن الإنسان الأوّل خلق من ماء ،وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً ،وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً ...الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم ،كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا الخلق الجميل !؟وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى .
بعد ذكر خلق الإنسان ،يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الإنسان ،فيقول: ( فجعله نسباً وصهراً ) .
المقصود من «النسب » هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد ،مثل ارتباط الأب والابن ،أو الإخوة بعضهم مع بعض ،أمّا المقصود من «صهر » التي هي في الأصل بمعنى «الختن » هو الارتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق ،مثل ارتباط الإنسان بأقرباء زوجته ،وهذان الاثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح ب «النسب » و «السبب » .
في القرآن المجيد في سورة النساء ،أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد ( الأم ،البنت ،الأخت ،العمة ،الخالة ،بنت الأخ ،بنت الأخت ) وإلى المحارم السببية في أربعة موارد ( بنت الزوجة ،أم الزوجة ،زوجة الابن ،زوجة الأب ) .
من المؤكّد أن هناك وجهات نظر أُخرى لدى المفسّرين في تفسير هذه الجملة ،لكن ما قلناه أوضح وأقوى من جميعها .
فمن جملتها أنّ جماعة منهم اعتبروا «النسب » بمعنى أولاد الابن ،و «الصهر » بمعنى أولاد البنت ،ذلك لأن الارتباط النسبي يحسب على أساس الآباء لا على أساس الأمهات .
و كما قلنا بشكل مفصلفي ذيل الاية ( 61 ) من سورة آل عمرانفإنّ هذا اشتباه كبير ،استمدَّ من سنن أيّام ما قبل الإسلام ،حيث اعتبروا النسب عن طريق الأب فقط ،وليس للأم أي أثر ،في حين أن من المسلمات في الفقه الإسلامي وبين جميع علماء الإسلام أن الحرمة النسبية من ناحية الأب ومن ناحية الاُم أيضاً ( ولزيادة الاطلاع ،راجع التّفسير ذيل الآية ( 61 ) من سورة آل عمران ) .
و الجدير بالذكر ،أن لدينا حديثاً معروفاً ،نقل في كتب الشيعة والسنة ،وطبقاً لهذا الحديث فإنّ الآية أعلاه نزلت في النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلي( عليه السلام ) ،وذلك أنّ النّبي زوّج ابنته فاطمة من علي( عليهما السلام ) ،ولهذا فقد كان علي( عليه السلام ) ابن عمّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وزوج ابنته أيضاً ،وهذا معنى «نسباً وصهراً »{[2868]} .
ولكن هذه الرّوايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة ،ولا تقدح بعمومية مفهوم الآية ،فالآية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة ،وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي( عليه السلام ) من جهتين مع النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية: ( وكان ربّك قديراً ) .
/خ55