سألتْهم إبداء آرائهم ماذا تعمل تجاه دعوة سليمان .والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً مثل التي قبلها .
والإفتاء: الإخبار بالفَتوى وهي إزالة مشكل يعرض .وقد تقدمت عند قوله تعالى:{ قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان} في سورة يوسف ( 41 ) .
والأمر: الحال المهم ،وإضافته إلى ضميرها لأنها المخاطبة بكتاب سليمان ولأنها المضطلعة بما يجب إجراؤه من شؤون المملكة وعليها تبعة الخطأ في المنهج الذي تسلكه من السياسة ،ولذلك يقال للخليفة وللملك وللأمير ولعالم الدين: وَليُّ الأمر .وبهذه الثلاثة فُسِّر قوله تعالى:{ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[ النساء: 59] .وقال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان:
أَوَليَّ أمرِ اللَّه إنا مَعشر *** حُنفاء نسجد بكرة وأصيلاً
فهذا معنى قولهم لها:{ والأمرُ إليك}[ النمل: 33] .
وقد أفادت إضافة{ أمري} تعريفاً ،أي في الحادثة المعيَّنة .
ومعنى{ قاطعة أمراً} عاملةً عملاً لا تردد فيه بالعزم على ما تجيب به سليمان .
وصيغة{ كنت قاطعة} تؤذن بأن ذلك دأبها وعادتها معهم ،فكانت عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد بمصالح قومها ولا تعرِّض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين .
والأمر في{ ما كنت قاطعة أمراً} هو أيضاً الحال المهم ،أي أنها لا تقضي في المهمات إلا عن استشارتهم .
و{ تَشهدون} مضارع شَهِد المستعمل بمعنى حَضر كقوله تعالى:{ فمن شهد منكم الشهر}[ البقرة: 185] ،أي حتى تَحْضُرون .وشهد هذا يتعدى بنفسه إلى كل ما يحضر فاعل الفعل عنده من مكان وزمان واسم ذات ،وذلك تعدّ على التوسع لكثرته ،وحق الفعل أن يُعدى بحرف الجر أو يعلق به ظرف .يقال: شهد عند فلان وشهد مجلس فلان .ويقال: شهد الجمعة .وفعل{ تشهدون} هنا مستعمل كناية عن المشاورة لأنها يلزمها الحضور غالباً إذ لا تقع مشاورة مع غائب .
والنون في{ تشهدون} نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً وألقيت كسرة النون المجتلبة لوقاية الحرف الأخير من الفعل عن أن يكون مكسوراً ،ونون الوقاية دالة على المحذوف .
وقرأه الجمهور بحذف الياء وصلاً ووقفاً .وقرأ يعقوب بإثبات الياء وصلاً ووقفاً .
وفي قولها:{ حتى تشهدون} كناية عن معنى: توافقوني فيما أقطعه ،أي يصدر منها في مقاطع الحقوق والسياسة: إما بالقول كما جرى في هذه الحادثة ،وإما بالسكوت وعدم الإنكار لأن حضور المعدود للشورى في مكان الاستشارة مغن عن استشارته إذ سكوته موافقة .ولذلك قال فقهاؤنا: إن على القاضي إذا جلس للقضاء أن يقضي بمحضر أهل العلم ،أو مشاورتهم .وكان عثمان يقضي بمحضر أهل العلم وكان عُمر يستشيرهم وإن لم يَحضروا .وقال الفقهاء: إن سكوتهم مع حضورهم تقرير لحكمه .
وليس في هذه الآية دليل على مشروعية الشورى لأنها لم تحك شَرعاً إلهياً ولا سيق مساق المدح ،ولكنه حكاية ما جَرى عند أمة غير متدينة بوحي إلهي ؛غير أن شأن القرآن فيما يذكره من القَصص أن يذكر المهم منها للموعظة أو للإسوة كما قدمناه في المقدمة السابعة .فلذلك يستروح من سياق هذه الآية حسن الشورى .وتقدم ذكر الشورى في سورة آل عمران .