وتفريع قوله:{ فتلك بيوتهم خاوية} على جملة:{ دمرناهم} لتفريع الإخبار .والإشارة منصرفة إلى معلوم غير مشاهد لأن تحققه يقوم مقام حضوره فإن ديار ثمود معلومة لجميع قريش وهي في طريقهم في ممرّهم إلى الشام .
وانتصب{ خاوية} على الحال .وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل كقوله تعالى:{ وهذا بعْلِي شيخاً} وقد تقدم في سورة هود ( 72 ) .
والخاوية: الخالية ،ومصدره الخَواء ،أي فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها .
والباء في بما ظلموا} للسببية ،و ( ما ) مصدرية ،أي كان خَواؤها بسبب ظلمهم .والظلم: الشرك وتكذيب رسولهم ،فذلك ظلم في جانب الله لأنه اعتداء على حق وحدانيته ،وظلم للرسول بتكذيبه وهو الصادق .
ولما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم كالفساد كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثراً في خراب بلادهم .
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: أجد في كتاب الله أن الظلم يخرّب البيوت وتلا:{ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} .وهذا من أسلوب أخذ كل ما يُحتمل من معاني الكلام في القرآن كما ذكرناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير .
ونزيده هنا ما لم يسبق لنا في نظائره ،وهو أن الحقائق العقلية لما كان قوام ماهياتها حاصلاً في الوجود الذهني كان بين كثير منها انتساب وتقارب يُردّ بعضها إلى بعض باختلاف الاعتبار .فالشرك مثلاً حقيقة معروفة يكون بها جنساً عقلياً وهو بالنظر إلى ما يبعث عليه وما ينشأ عنه ينتسب إلى حقائق أخرى مثل الظلم ،أي الاعتداء على الناس بأخذ حقوقهم فإنه من أسبابه ،ومثل الفسق فإنه من آثاره ،وكذلك التكذيب فإنه من آثاره أيضاً:{ وذرني والمكذبين}[ المزمل: 11] ،ومثل الكبر ومثل الإسراف فإنهما من آثاره أيضاً .فمن أساليب القرآن أن يعبر عن الشرك بألفاظ هذه الحقائق للإشارة إلى أنه جامع عدة فظائع ،وللتنبيه على انتسابه إلى هذه الأجناس ،وليعلم المؤمنون فساد هذه الحقائق من حيث هي فيعبر عنه هنا بالظلم وهو كثير ليعلم السامع أن جنس الظلم قبيح مذموم ،ناهيك أن الشرك من أنواعه .وكذلك قوله:{ إن الله لا يهدي من هو مُسرف كذّاب}[ غافر: 28] أي هو متأصل في الشرك وإلا فإن الله هدى كثيراً من المسرفين والكاذبين بالتوبة ،ومن قوله:{ أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}[ الزمر: 60] ونحو ذلك .
وجملة:{ إن في ذلك لآية} معترضة بين الجمل المتعاطفة .والإشارة إلى ما ذكر من عاقبة مكرهم .والآية: الدليل على انتصار الله لرسله .
واللام في{ لقوم يعلمون} لام التعليل يعني آية لأجلهم ،أي لأجل إيمانهم .وفيه تعريض بأن المشركين الذين سبقت إليهم هذه الموعظة إن لم يتعظوا بها فهم قوم لا يعلمون .
وفي ذكر كلمة ( قوم ) إيماء إلى أن من يعتبر بهذه الآية متمكن في العقل حتى كان العقل من صفته القومية ،كما تقدم في قوله تعالى:{ لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة ( 164 ) .