{ والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق مصدقا لما بين يديه} .
لما كان المبدأ به من أسباب ثواب المؤمنين هو تلاوتهم كتاب الله أعقب التنويه بهم بالتنويه بالقرآن للتذكير بذلك ،ولأن في التذكير بجلال القرآن وشرفه إيماء إلى علة استحقاق الذين يتلونه ما استحَقوا .وابتدىء التنويه به بأنه وحي من الله إلى رسوله ،وناهيك بهذه الصلة تنويهاً بالكتاب ،وهو يتضمن تنويهاً بشأن الذي أنزل عليه من قوله:{ والذي أوحينا إليك} ،ففي هذا مسرة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبشارة له بأنه أفضل الرسل وأن كتابه أفضل الكتب .
وهذه نكتة تعريف المسند إليه باسم الموصول لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه كونه الحق الكامل ،دون الإِضمار الذي هو مقتضى الظاهر بأن يقال: وهو الكتاب الحق .
فالتعريف في{ الكتاب} تعريف العهد .
و{ مِن} بيانية لما في الموصول من الإِبهام ،والتقدير: والكتاب الذي أوحينا إليك هو الحقّ .فقدم الموصول الذي حقه أن يَقع صفة للكتاب تقديماً للتشويق بالإِبهام ليقع بعده التفصيل فيتمكن من الذهن فضْلَ تمكن .
فجملة{ والذي أوحينا إليك من الكتاب} معطوفة على جملة{ إن الذين يتلون كتاب الله}[ فاطر: 29] فهي مثلها في حكم الاستئناف .
وضمير{ هو} ضمير فصل ،وهو تأكيد لما أفاده تعريفَ المسند من القصر .
والتعريف في{ الحق} تعريف الجنس .وأفاد تعريفُ الجزأين قصر المسند على المسند إليه ،أي قصر جنس الحق على{ الذي أوحينا إليك} ،وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بحقيّة ما عداه من الكتب .
فأما الكتب غير الإِلهية مثل ( الزند فسْتَا ) كتاب ( زرادشت ) ومثل كتب الصابئة فلأنَّ ما فيها من قليل الحق قد غمر بالباطل والأوهام .
وأما الكتب الإِلهية كالتوراة والإِنجيل وما تضمنته كتب الأنبياء كالزبور وكتاب أرميا من الوحي الإِلهي ،فما شهد القرآن بحقيته فقد دخل في شهادة قوله:{ مصدقاً لما بين يديه} ،وما جاء نسخُه بالقرآن فقد بين النسخ تحديد صلاحيته في القرآن .وذلك أيضاً تصديق لها لأنه يدفع موهم بطلانها عند من يجد خلافها في القرآن وما عسى أن يكون قد نقل على تحريف أو تأويل فقد دخل فيما أخرجه القصر .وقد بين القرآن معظمهُ وكشف عن مواقعه كقوله:{ وهو محرم عليكم إخراجهم}[ البقرة: 85] .j
ومعنى « ما بين يديه » ما سبقه لأن السابق يجيء متقدِّماً على المسبوق فكأنه يمشي بين يديه كقوله تعالى:{ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}[ سبأ: 46] .والمراد بما بين يديه ما قبله من الشرائع ،وأهمها شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما السلام .
وانتصب{ مصدقاً} على الحال من{ الكتاب} والعامل في الحال فعل{ أوحينا} ليفيد أنه مع كونه حقّاً بالغاً في الحقيَّة فهو مصدق للكتب الحقّة ،ومقرر لما اشتملت عليه من الحق .
{ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لخبير بصير} .
تذييل جامع لما تضمنته الآيات قبله من تفضيل بعض عباد الله على بعض ومن انطواء ضمائرهم على الخشية وعدمها ،وإقبال بعضهم على الطاعات وإعراض بعض ،ومن تفضيل بعض كتب الله على بعض المقتضي أيضاً تفضيل بعض المرسلين بها على بعض ،فموقع قوله:{ إن الله بعباده لخبير بصير} موقع إقناع السامعين بأن الله عليم بعباده وهو يعاملهم بحسب ما يعلم منهم ،ويصطفي منهم من علم أنه خلقه كفئاً لاصطفائه ،فأَلْقَمَ بهذا الذين قالوا:{ أأنزل عليه الذكر من بيننا}[ ص: 8] حَجراً ،وكأولئك أيضاً الذين ينكرون القرآن من أهل الكتاب بعلة أنه جاء مبطلاً لكتابهم .
والخبير: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية .
والبصير: العالم بالأمور المبصرة .وتقديم الخبير على البصير لأنه أشمل .وذكر البصير عقبه للعناية بالأعمال التي هي من المبصرات وهي غالب شرائع الإِسلام ،وقد تكرر إرداف الخبير بالبصير في مواضع كثيرة من القرآن .
والتأكيد ب{ إنَّ} واللام للاهتمام بالمقصود من هذا الخبر .