راجع إلى{ القرآن الحكيم}[ يس: 2] إذ هو المنزل من عند الله ،فبعد أن استوفى القسم جوابه رجع الكلام إلى بعض المقصود من القسم وهو تشريف المقسم به فوسم بأنه{ تنزيل العزيز الرحيم} .
وقد قرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف للعلم به ،وهذا من مواقع حذف المسند إليه الذي سماه السكاكي الحذف الجاري على متابعة الاستعمال في أمثاله .وذلك أنهم إذا أجروا حديثاً على شيء ثم أخبروا عنه التزموا حذف ضميره الذي هو مسند إليه إشارة إلى التنويه به كأنه لا يخفى كقول إبراهيم الصّولي ،أو عبد الله بن الزَّبير الأَسدي أو محمد بن سعيد الكاتب ،وهي من أبيات الحماسة في باب الأضياف:
سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيتــي *** أيَــاديَ لم تمنن وإن هي جَلّتِ
فتىً غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولاَ مظهرِ الشكوى إذ النعل زلَّتِ
تقديره: هو فتى .
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنصب{ تنزيل} على تقدير: أعني .والمعنى: أعني من قسمي قرآناً نَزَّلتُه ،وتلك العناية زيادة في التنويه بشأنه وهي تعادل حذف المسند إليه الذي في قراءة الرفع .
والتنزيل: مصدر بمعنى المفعول أخبر عنه بالمصدر للمبالغة في تحقيق كونه منزلاً .
وأضيف التنزيل إلى الله بعنوان صفتي{ العزيز الرحيم} لأن ما اشتمل عليه القرآن لا يعدُو أن يكون من آثار عزة الله تعالى ،وهو ما فيه من حمل الناس على الحق وسلوك طريق الهدى دون مصانعة ولا ضعف مع ما فيه من الإِنذار والوعيد على العصيان والكفران .
وأن يكون من آثار رحمته وهو ما في القرآن من نَصْب الأدلة وتقريب البعيد وكشف الحقائق للناظرين ،مع ما فيه من البشارة للذين يكونون عند مرضاة الله تعالى ،وذلك هو ما ورد بيانه بعدُ إجمالاً من قوله:{ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون}[ يس: 6] ثم تفصيلاً بقوله:{ لقد حق القول على أكثرهم}[ يس: 7] وبقوله:{ إنما تُنذر من اتَّبع الذكر وخَشِيَ الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم}[ يس: 11] .