قد ذكر الله في أول السورة قوله:{ وكم أرسلنا من نبيء في الأولين وما يأتيهم من نبيء إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشاً ومَضى مثل الأولين}[ الزخرف: 6 8] .وساق بعد ذلك تذكرة بإبراهيم عليه السلام مع قومه ،وما تفرع على ذلك من أحوال أهل الشرك فلما تقضّى أُتبع بتنظير حال الرّسول صلى الله عليه وسلم مع طغاة قومه واستهزائهم بحال موسى مع فرعون ومَلَئِهِ ،فإنَّ للمُثل والنظائر شأناً في إبراز الحقائق وتصوير الحالين تصويراً يفضي إلى ترقب ما كان لإحدى الحالتين من عواقبَ أن تلحق أهلَ الحالة الأخرى ،فإن فرعون وملئِه تلقّوا موسى بالإسراف في الكُفر وبالاستهزاء به وباستضعافه إذ لم يكن ذا بذخة ولا محلّى بحلية الثراء وكانت مناسبة قوله{ وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا}[ الزخرف: 45] الآية هيَّأتْ المقام لضرب المثَل بحال بعض الرّسل الذين جاءوا بشريعة عظمى قبل الإسلام .
والمقصود من هذه القصة هو قوله فيها{ فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلَفاً ومثَلاً للآخرين}[ الزخرف: 55 ،56] ،فإن المراد بالآخرِين المكذبون صناديدُ قريش .ومن المقصود منها بالخصوص هنا: قولُه{ وملئه} أي عظماء قومه فإن ذلك شبيه بحال أبي جهل وأضرابه ،وقوله:{ فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون} لأن حالهم في ذلك مشابه لحال قريش الذي أشار إليه قوله:{ وكم أرسلنا من نبيء في الأولين وما يأتيهم من نبيء إلا كانوا به يستهزئون}[ الزخرف: 6 ،7] ،وقولُه بعد ذلك{ أم أنا خير من هذا الذي هو مَهِين}[ الزخرف: 52] لأنهم أشبهوا بذلك حال أبي جهل ونحوه في قولهم:{ لولا نُزّل هذا القرآن على رجللٍ من القريتين عظيمٍ}[ الزخرف: 31] إلاّ أن كلمة سادة قريش كانت أقرب إلى الأدب من كلمة فرعون لأن هؤلاء كان رسولهم من قومهم فلم يتركوا جانب الحياء بالمرة وفرعون كان رسوله غريباً عنهم .وقولُه{ فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب}[ الزخرف: 53] لأنه مشابه لما تضمنه قول صناديد قريش{ على رجل من القريتين عظيم}[ الزخرف: 31] فإن عظمة ذيْنِك الرجلين كانت بوفرة المال ،ولذلك لم يُذكر مثله في غير هذه القصة من قصص بعثة موسى عليه السلام ،وقولُهم:{ يا أيّها الساحر ادْعُ لَنَا ربّك}[ الزخرف: 49] وهو مُضاهٍ لقوله في قريش{ هذا سحرٌ وإنا به كافرون}[ الزخرف: 30] ،وقولُه:{ فأغرقناهم أجمعين}[ الزخرف: 55] الدالُّ على أن الله أهلكهم كلَّهم ،وذلك إنذار بما حصل من استئصال صناديد قريش يوم بدر .
فحصل من العبرة في هذه القصة أمران:
أحدهما: أن الكفار والجهلة يتمسكون بمثل هذه الشبهة في رد فضل الفضلاء فيتمسكون بخيوط العنكبوت من الأمور العرضية التي لا أثر لها في قيمة النفوس الزكية .
وثانيهما: أن فرعون صاحبَ العظمة الدنيوية المحضة صار مقهوراً مغلوباً انتصر عليه الذي استضعفه ،وتقدم نظير هذه الآية غير مرة .