علم إبراهيم من محاورتهم فيما ذكر في هذه الآية وما ورد ذكره في آيات أخرى أنهم ملائكة مرسلون من عند الله فسألهم عن الشأن الذي أرسلوا لأجله .وإنما سألهم بعد أن قَراهم جرياً على سنة الضيافة أن لا يُسأل الضيف عن الغرض الذي أَورده ذلك المنزلَ إلا بعد استعداده للرحيل كيلا يتوهم سآمة مُضيِّفة من نزوله به ،وليعينه على أمره إن كان مستطيعاً ،وهم وإن كانوا قد بشروه بأمر عظيم إلا أنه لم يعلم هل ذلك هو قصارى ما جاءوا لأجله ؟
وحكي فعل القول بدون عاطف لأنه في مقاوله محاورة بينه وبين ضيفه .
والفاء فيما حُكي من كلام إبراهيم فصيحة مؤذنة بكلام محذوف ناشىء عن المحاورَة الواقعة بينه وبين ضيفه وهو من عطف كلام على كلام متكلم آخر ويقع كثيراً في العطف بالواو نحو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم:{ قال ومن ذريتي}[ البقرة: 124] بعد قوله تعالى:{ قال إني جاعلك للناس إماماً}[ البقرة: 124] وقوله حكاية عن نوح:{ قال وما علمي بما كانوا يعملون}[ الشعراء: 112] .فإبراهيم خاطب الملائكة بلغته ما يؤدي مثله بفصيح الكلام العربي بعبارة{ فما خطبكم أيها المرسلون} .وتقدير المحذوف: إذ كنتم مرسلين من جانب الله تعالَى فما خطبكم الذي أُرسلتم لأجله .وقد علم إبراهيم أن نزول الملائكة بتلك الصورة لا تكون لمجرد بشارته بابن يولد له ولزوجه إذ كانت البشارة تحصل له بالوحي ،فكان من عِلم النبوءة أن إرسال الملائكة إلى الأرض بتلك الصورة لا يكون إلا لخطب قال تعالى:{ ما تنزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذن منظرين}[ الحجر: 8] والخطب: الحدث العظيم والشأن المهمّ ،وإضافته إلى ضميرهم لأدنى ملابسة .
والمعنى: ما الخطب الذي أُرسلتم لأجله إذ لا تَنزل الملائكة إلا بالحق .وخاطبهم بقوله:{ أيها المرسلون} لأنه لا يعرف ما يسميهم به إلا وصف أنهم المرسلون ،والمرسلون من صفات الملائكة كما في قوله تعالى:{ والمرسلات عرفاً}[ المرسلات: 1] عن أحد تفسيرين .