الإِتيان بالشيء: إحضاره من مكان آخر .واختير هذا الفعل دون نحو: فليقولوا مثلَه ونحوه ،لقصد الإِعذار لهم بأن يُقتنع منهم بجلب كلام مثله ولو من أحد غيرهم ،وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة ( 23 ){ فأتوا بسورة من مثله} أنه يحتمل معنيين ،هما: فأتوا بسورة من مثل القرآن ،أو فأتوا بسورة من مثل الرسول ،أي من أحد من الناس .
والحديث: الإِخبار بالحوادث ،وأصل الحوادث أنها الواقعات الحديثة ،ثم توسع فأطلقت على الواقعات ،ولو كانت قديمة كقولهم: حوادث سنة كذا ،وتَبع ذلك إطلاق الحديث على الخبر مطلقاً ،وتوسع فيه فأطلق على الكلام ولو لم يكن إخباراً ،ومنه إطلاق الحديث على كلام النبي .
فيجوز أن يكون الحديث هنا قد أطلق على الكلام مجازاً بعلاقة الإِطلاق ،أي فليأتوا بكلام مثله ،أي في غرض من الأغراض التي يشتمل عليها القرآن لا خصوص الأخبار .ويجوز أن يكون الحديث هنا أطلق على الأخبار ،أي فليأتوا بأخبار مثل قصص القرآن فيكون استنزالاً لهم فإن التكلم بالأخبار أسهل على المتكلم من ابتكار الأغراض التي يتكلم فيها ،فإنهم كانوا يقولون إن القرآن أساطير الأولين ،أي أخبار عن الأمم الماضين فقيل لهم: فليأتوا بأخبار مثل أخباره لأن الإِتيان بمثل ما في القرآن من المعارف والشرائع والدلائل لا قِبَل لعقولهم به ،وقصاراهم أن يفهموا ذلك إذا سمعوه .
ومعنى المثلية في قوله: مثله} المثلية في فصاحته وبلاغته ،وهي خصوصيات يدركونها إذا سمعوها ولا تحيط قرائحهم بإيداعها في كلامهم .وقد بينا أصول الإِعجاز في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .
ولام الأمر في{ فليأتوا} مستعملة في أمر التعجيز كقوله حكاية عن قول إبراهيم{ إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْتتِ بها من المغرب}[ البقرة: 258] .
وقوله:{ إن كانوا صادقين} أي في زعمهم أنه تقوّله ،أي فإن لم يأتوا بكلام مثله فهم كاذبون .وهذا إلهاب لعزيمتهم ليأتوا بكلام مثل القرآن ليكون عدم إتيانهم بمثله حجة على كذبهم وقد أشعر نظم الكلام في قوله:{ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} الواقععِ موقعاً شبيهاً بالتذييل والمختوممِ بكلمة الفاصلة ،أنه نهاية غرض وأن ما بعده شروع في غرض آخر كما تقدم في نظم قوله:{ قل تربصوا فإني معكم من المتربصين}[ الطور: 31] .