وإنما ابتدىء الاستدلال بتقديم جملة{ أأنتم تخلقونه} زيادة في إبطال شبهتهم إذ قاسوا الأحوال المغيبة على المشاهدة في قلوبهم لا نُعاد بعد أن كنا تراباً وعظاماً ،وكان حقهم أن يقيسوا على تخلق الجنين من مبدأ ماء النطفة فيقولوا: لا تتخلق من النطفة الميتة أجسام حية كما قالوا: لا تصير العظام البالية ذواتاً حيّة ،وإلا فإنهم لم يدّعوا قط أنهم خالقون ،فكان قوله:{ أأنتم تخلقونه} تمهيداً للاستدلال على أن الله هو خالق الأجنة بقدرته ،وأن تلك القدرة لا تقصر عن الخلق الثاني عند البعث .
وفعل الرؤية في « أرأيتم » من باب ( ظن ) لأنه ليس رؤية عين .وقال الرضيّ: هو في مثله منقول من رأيت ،بمعنى أبصرت أو عرفتَ ،كأنه قيل: أأبصرت حاله العجيبة أو أعرفتها ،أخبرني عنها ،فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء اه ،أي لأن أصل فعل الرؤية من أفعال الجوارح لا من أفعال العقل .
و{ ما تمنون} مفعول أول لفعل{ أفرأيتم} .وفي تعدية فعل « أرأيتم » إليه إجمال إذ مورد فعل العلم على حال من أحوال ما تمنون ،ففعل « رأيتم » غير وارد على نفس{ ما تمنون} .فكانت جملة{ أأنتم تخلقونه} بياناً لجملة{ أفرأيتم ما تمنون} ،وأعيد حرف الاستفهام ليطابِق البيانُ مبيَّنَه .
وبهذا الاستفهام صار فعل{ أرأيتم} معلقاً عن العمل في مفعول ثان لوجود موجب التعليق وهو الاستفهام .قال الرضيّ: إذ صُدر المفعول الثاني بكلمة الاستفهام فالأوْلى أن لا يعلق فعل القلب عن المفعول الأول نحو: علمْت زيداً أي من هو » .اه .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في{ أأنتم تخلقونه} لإِفادة التقويّ لأنهم لما نُزلوا منزلة من يزعم ذلك كما علمتَ صيغت جملة نفيه بصيغة دالة على زعمهم تمكن التصرف في تكوين النسل .
وقد حصل من نفي الخلق عنهم وإثباته لله تعالى معنى قصر الخلق على الله تعالى .
و{ أم} متصلة معادلة الهمزة ،وما بعدها معطوف لأن الغالب أن لا يذكر له خبر اكتفاء بدلالة خبر المعطوف عليه على الخبر المحذوف ،وههنا أعيد الخبر في قوله:{ أم نحن الخالقون} زيادة في تقرير إسناد الخلق إلى الله في المعنى وللإِيفاء بالفاصلة وامتداد نفس الوقف ،ويجوز أن نجعل{ أم} منقطعة بمعنى ( بل ) لأن الاستفهام ليس بحقيقي فليس من غرضه طلب تعيين الفاعل ويكون الكلام قد تم عند قوله:{ تخلقونه} .
والمعنى: أتظنون أنفسكم خالقين النسمَة مما تمنون .