والكتاب المكنون: مستعار لموافقة ألفاظ القرآن ومعانيه ما في علم الله تعالى وإرادته وأمرِه الملك بتبليغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك شؤون محجوبة عنّا فلذلك وصف الكتاب بالمكنون اشتقاقاً من الاكتنان وهو الاستتار ،أي محجوب عن أنظار الناس فهو أمر مغيّب لا يعلم كنهه إلا الله .
وحاصل ما يفيده معنى هذه الآية: أن القرآن الذي بلَغَهم وسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم هو موافق لما أراد الله إعلام الناس به وما تعلقت قدرته بإيجاد نظمه المعجز ،ليكمل له وصف أنه كلام الله تعالى وأنه لم يصنعه بشر .
ونظير هذه الظرفية قوله تعالى:{ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} إلى قوله:{ إلا في كتاب مبين} في سورة الأنعام ( 59 ) ،وقوله:{ وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب}[ فاطر: 11] أي إلا جارياً على وفق ما علمه الله وجَرى به قَدَره ،فكذلك قوله هنا:{ في كتاب مكنون} ،فاستعير حرف الظرفية لمعنى مطابقةِ ما هو عند الله ،تشبيهاً لتلك المطابقة باتحاد المظروف بالظرف .وقريب منه قوله تعالى:{ إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}[ الأعلى: 18 ،19] وهذا أولى من اعتبار المجاز في إسناد الوصف بالكون في كتاب مكنون إلى قرآن كريم على طريقة المجاز العقلي باعتبار أن حقيقة هذا المجاز وصف مماثل القرآن ومطابقه لأن المماثل ملابس لمماثله .
واستعير الكتاب للأمر الثابت المحقق الذي لا يقبل التغيير ،فالتأم من استعارة الظرفية لمعنى المطابقة ،ومن استعارة الكتاب للثابت المحقق معنى موافقة معاني هذا القرآن لما عند الله من متعلّق علمه ومتعلّق إرادته وقدرته وموافقة ألفاظه لما أمر الله بخلقه من الكلام الدال على تلك المعاني على أبلغ وجه ،وقريب من هذه الاستعارة قول بشر بن أبي حازم أو الطرمَّاح:
وجدنا في كتاب بني تميم *** أحق الخيل بالركض المعار
وليس لبني تميم كتاب ولكنه أطلق الكتاب على ما تقرر من عوائدهم ومعرفتهم .