لما تمت العبرة بقصة بعث موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ،وكيف نصره الله على عدوه ،ونصر قومه بني إسرائيل ،وأهلك عدوهم كشأن سنة الله في نصر الحق على الباطل ،استرسل الكلام إلى وصف تكوين أمة بني إسرائيل وما يحق أن يعتبرَ به من الأحوال العارضة لهم في خلال ذلك مما فيه طمأنينةُ نفوس المؤمنين الصالحين في صالح أعمالهم ،وتحذيرهم مما يرمي بهم إلى غضب الله فيما يحقرون من المخالفات ،لما في ذلك كله من التشابه في تدبير الله تعالى أمور عبيده ،وسنته في تأييد رسله وأتباعهم ،وإيقاظ نفوس الأمة إلى مراقبة خواطرهم ومحاسبة نفوسهم في شكر النعمة ودحض الكفران .
والمجاوزة: البعد عن المكان عقب المرور فيه ،يقال: جَاوز بمعنى جاز ،كما يقال: عَالى بمعنى علا ،وفعله متعد إلى واحد بنفسه وإلى المفعول الثاني بالباء فإذا قلت: جُزتُ به ،فأصل معناه أنك جزته مصاحباً في الجواز به للمجرور بالباء ،ثم استعيرت الباء للتعدية يقال: جُزت به الطريق إذا سهلت له ذلك وإن لم تسر معه ،فهو بمعنى أجزته ،كما قالوا: ذَهبت به بمعنى أذهبته ،فمعنى قوله هنا:{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} قدرنا لهم جَوازه ويسرّناه لهم .
والبحر هو بحر القُلْزُم المعروف اليوم بالبحر الأحمر وهو المراد باليمّ في الآية السابقة ،فالتعريف للعهد الحضوري ،أي البحر المذكور كما هو شأن المعرفة إذا أعيدت معرفة ،واختلاف اللفظ تفنن ،وتجنباً للإعادة ،والمعنى: أنهم قطعوا البحر وخرجوا على شاطئه الشرقي .
و{ أتوا على قوم} معناه أتَوْا قوماً ،ولما ضمن{ أتَوْا} معنى مروا عدي بعلى ،لأنهم لم يقصدوا الإقامة في القوم ،ولكنهم ألْفَوهم في طريقهم .
والقوم هم الكنعانيون ويقال لهم عند العرب العمالقةُ ويعرفون عند متأخري المؤرخين بالفنيقيين .
والأصنام كانت صُورَ البقر ،وقد كان البقر يعبد عند الكنعانيين ،أي الفنيقيين باسم ( بَعل ) ،وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى:{ ثم اتخذتم العجل من بعده} في سورة البقرة ( 51 ) .
والعُكوف: الملازمة بنية العبادة ،وقد تقدم عند قوله تعالى:{ ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} في سورة البقرة ( 187 ) ،وتعدية العكوف بحرف ( على ) لما فيه من معنى النزول وتمكنه كقوله:{ قالوا لن نبرح عليه عاكفين}[ طه: 91] .
وقريء{ يعكفون} بضم الكاف للجمهور ،وبكسرها لحمزة والكسائي ،وخَلف ،وهما لغتان في مضارع عَكف .
واختير طريق التنكير في أصنام ووصفُه بأنها لهم ،أي القوم دون طريق الإضافة ليتوسل بالتنكير إلى إرادة تحقير الأصنام وأنها مجهولة ،لأن التنكير يستلزم خفاء المعرفة .
وإنما وصفت الأصنام بأنها لهم ولم يُقتصر على قوله:{ أصنام} قال ابن عرفة التونسي: « عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع بهم وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في أنهم يعبدون ما هو ملك لهم فيجعلون مملوكهم إلاههم » .
وفُصلت جملة{ قالوا} ،فلم تعطف بالفاء: لأنها لما كانت افتتاح محاور ،وكان شأن المحاورة أن تكون جملها مفصولة شاع فصلها ،ولو عطفت بالفاء لجاز أيضاً .
ونداؤهم موسى وهو معهم مستعمل في طلب الإصغاء لما يقولونه ،إظهاراً لرغبتهم فيما سيطلبون ،وسموا الصنم إلاهاً لجهلهم فهم يحْسبون أن اتخاذ الصنم يُجدي صاحبه ،كما لو كان إلاهُه معَه ،وهذا يدل على أن بني إسرائيل قد انخلعوا في مدة إقامتهم بمصر عن عقيدة التوحيد وحنيفية إبراهيم ويعقوب التي وصى بها في قوله:{ فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون}[ البقرة: 132] لأنهم لما كانوا في حال ذل واستعباد ذهب علمهم وتاريخ مجدهم واندمجوا في ديانة الغالبين لهم فلم تبق لهم ميزة تميزهم إلاّ أنهم خدمة وعبيد .
والتشبيه في قوله:{ كما لَهم آلهة} أرادوا به حَض موسى على إجابة سؤالهم ،وابتهاجاً بما رأوا من حال القوم الذين حَلّوا بين ظهرانيهم وكفَى بالأمة خسّةَ عقول أن تعُد القبيح حسناً ،وأن تتخذ المظاهر المزيّنة قدوة لها ،وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها .
و{ ما} يجوز أن تكون صلة وتوكيداً كافة عمل حرف التشبيه ،ولذلك صار كاف التشبيه داخلاً على جملة لا على مفرد ،وهي جملة من خبر ومبتدأ ،ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية غير زمانية ،والجملة بعدها في تأويل مصدر ،والتقدير كوجود آلهة لهم ،وإن كان الغالب أن ( ما ) المصدرية لا تدخل إلاّ على الفعل نحو قوله تعالى:{ ودوا ما عنَتّم}[ آل عمران: 118] فيتعين تقدير فعل يتعلق به المجرور في قوله:{ لهم} أو يكتفَى بالاستقرار الذي يقتضيه وقوع الخبر جازا ومجروراً ،كقول نهْشَل بن جرير التميمي:
كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه{[240]}
وفصلت جملة{ قال إنكم قوم تجهلون} لوقوعها في جواب المحاورة ،أي: أجاب موسى كلامهم ،وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله:{ إنكم قوم تجهلون} لأن ذلك هو المناسب لحالهم .
والجهل: انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته ،وتقدم في قوله تعالى:{ للذين يعملون السوء بجهالة} في سورة النساء ( 17 ) ،والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام ،وكانَ وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكداً لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم ،ولولا ذلك لكان لهم في باديء النظر زاجر عن مثل هذا السؤال ،فالخبر مستعمل في معنييه: الصريح والكناية ،مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم .
وفي الإتيان بلفظ{ قوم} وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفاً لقوم ،تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم ،وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم ،ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم ( بإن ) لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامعُ .