{وَجَاوَزْنَا} ؛المجاوزة: الآخراج عن الحدّ .وجاز الوادي: قطعه وخلّفه وراءه .
{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ}: يواظبون عليها ويلزمونها .ومنه الاعتكاف ،وهو لزوم المسجد للعبادة فيه .
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ} ليبدأوا حياةً جديدة ،يبتعدون فيها عن الأجواء الفاسدة التي كانوا يتنفسون فيها الذلّ والعبودية والقهر والاستغلال ،ويعيشون الكفر والضلال والعصيان ،وقد شاهدوا المعجزة الكبرى في انفلاق البحر بضربة عصا موسى ،وكيف جعل منه اثني عشر طريقاً يبساً ،وكيف انطبق البحر على فرعون وجنوده حتى غرقوا عن آخرهم ،وكيف وصلوا إلى الشاطىء الثاني من البحر سالمين بعد أن تخلّصوا من ذلك الكابوس الجاثم على صدورهم مدّةً طويلةً ،فهل استوعبوا ذلك كله ،فعمّقوا إيمانهم ،وانفتحوا على عبادة الإله الواحد ،وأغلقوا قلوبهم عن كل شيء غيره من آلهة الحجر والبشر الذين يعبدهم فريقٌ من الناس من دون الله ؟والظاهر أنهم لم يستوعبوا ذلك كله ،فلم تكن رحلتهم مع موسى رحلة إيمان يبحث عن الحقيقة ،بل كانت رحلة اضطهادٍ يبحث عن الخلاص .كان الإيمان مجرد واجهةٍ ،وكانت الرسالة مجرد وسيلةٍ للوصول إلى الحرية .وكان موسى نبيّاً ،ولكنهم كانوا يتحركون معه من موقع القائد الذي يريدونه أن يربح المعركة ضد العدوّ ،لا من موقع الرسول الذي يريد أن يحقق من خلالهمفي الانتصار على العدوّ المتألّه الطاغيأهداف رسالته في تغيير الحياة والإنسان على أساس وحي الله .
كانوا يشعرونفي ما يبدوأن النبوّة سلاح في المعركة ضد فرعون ،لا حقيقةٌ إلهيّة في الحياة ضد كل ما هو زيفٌ في الفكر وفي الواقع ،وهذا ما واجهه موسى في بداية التجربة الأولى في الأجواء الجديدة ،حيث استيقظت كل رواسب الصنميّة في الأعماق ،وبدأت تتحرك على السطح لتتحول إلى نداءٍ متوسّل إلى موسى في القيام بصناعة أصنام لهم لتكون آلهة يعبدونها ،كما للآخرين آلهة ..{فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} فيقبلون عليها ويلازمونها في عبادةٍ وابتهالٍ وخشوع ،فأحسّوا بالحرمان الذي يحسّ به كل من يفقد شيئاً يملكه الآخرون .
{قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا} على شكل آلهة هؤلاء ،فقد ابتعدنا عن مصر وعن معابد الآلهة التي اعتدنا العبادة فيها للأصنام ،فكيف لا يكون لنا آلهة{كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ؟!إننا نتوسل إليك أن تنقذنا من هذا الحرمان الروحي ،كما أنقذتنا من ظلم فرعون ؟وتلك هي الروحيّة التي كانت تحكم طريقتهم في التفكير ،وآفاقهم في الإحساس ،وخطواتهم في الممارسة ...وشعر موسى بالمرارة ،ولكنها ليست مرارة الخيبة التي تقود إلى الإحباط وتدفع إلى اليأس ،بل هي مرارة الرسول الذي يشعر بأن ما تحتاجه المرحلة من جهدٍ وتوعيةٍ وتربيةٍ لا زال كبيراً ،لأن القوم لم يأخذوا قضية الإيمان كقضيةٍ للفكر وللحياة ،بل أخذوها كوسيلةٍ للخلاص من العبودية ،فإن التاريخ الطويل الذي عاشوه في أجواء الظلم والطغيان والشرك ،قد ترك تأثيره الكبير على الملامح الداخلية والخارجية لشخصيتهم ،مما يقتضي وضع خطةٍ جديدة ،تختلف في وسائلها ،وتتنوّع في أساليبها وأشكالها .
{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ،لأنكم لم تعرفوا حقيقة الألوهية في معناها المطلق ،من حيث إن الله يخلق كل شيء ،ويحيط بكلّ شيء ،وليس كمثله شيء ،وليس بينه وبين أحدٍ من عباده قرابةٌ ليكون واسطةً بينه وبينه ،فلا معنى لأن يعبد أحدٌ أحداً ليقرّبه إلى الله زلفى ،لأن العمل المتحرك في خط الإيمان ،هو الذي يقرب العبد من ربه ،وبذلك لا معنى لإعطاء هذه التماثيل الحجرية والخشبية والذهبية والنحاسية والفضية معنى الألوهة ،فهي مخلوقة لله بمادتها ،ومصنوعة للإنسان بشكلها ،فكيف تحمل سرّ الألوهة ؟ومن أين تحصل على القوة والقدرة ؟إنه الجهل والغفلة والسذاجة ،ذلكم هو عذركم في هذا العرض وفي هذا التمني الآخرق .إنكم تتمنون أن تكونوا كهؤلاء تعبدون مثل ما يعبدون ،ولكن هل عرفتم مستوى هؤلاء وقيمتهم في ما يفكرون ويعملون ؟