/م138
في الآية الأُولى: ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ) أي النيل العظيم .
ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام ( فأَتَوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ) .
و«عاكف » مشتقّة من مادة «العكوف » بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لاحترامه وتبجيله .
فتأَثَّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء: يا موسى اتّخذ لنا معبوداً على غرار معبودات هؤلاء ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلِهة ) .
فانزعج موسى( عليه السلام ) من هذا الإِقتراح الأحمق بشدّة ،وقال لهم: ( قال إنّكم قوم تجهلون ) .
بحوث
وهنا لابدّ من الانتباه إلى نقاط:
1الجهل منشأ الوثنية
يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب ،وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل .
ومن جانب آخر جهل الإنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب أحياناً في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام .
ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة ،وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلاّ بالقضايا الحسية .
إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت ،وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام ،وإلاّ فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته ،عارف بعلل الحوادث ،عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطبيعة .قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا ،فيستعمل قسماً منها في بناء بيته ،أو صنع سلالم منزله ،ويتخذ قسماً آخر معبوداً يسجد أمامه ،ويسلّم مقدراته بيده .
والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسى( عليه السلام ) في الآية الحاضرة كيف يقول لهم: أنتم غارقون في الجهل دائماً ،( لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالباً على الاستمرارية ) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية ،وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته .
والأغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم ( اجعل لنا إلهاً ) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثميناًبمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليهوتوجب عبادته التقرب إلى الله ،وعدم عبادته البعد عنه تعالى ،وتكون عبادته منشأ للخير والبركة ،واحتقاره منشأ للضرر والخسارة ،وهذه هي نهاية الجهل والغفلة .
صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم ،بل كان مقصودهم هو: اجعل لنا معبوداً نتقرب بعبادته إلى الله ،ويكون مصدراً للخير والبركة ،ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقد للروح والتأثير مصدراً للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبوداً وإلهاً ؟هل الدافع لذلك العمل شيء سوى الجهل والخرافة ،والخيال الواهي والتصور الخاوي{[1437]} ؟!
2أرضية الوثنية عند بني إسرائيل
لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيلقبل مشاهدة هذا الفريق منالوثنيينأرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع ،بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين ،ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم ،وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة ،فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله ،كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية ،وأنّ البيئة يمكن أن تصير سبباً لأنواع المفاسد والشقاء ،أو منشأ للصلاح والطهر .( وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي ) ولهذا اهتم الإِسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغاً .
3الكفرة بالنعم في بني إسرائيل
الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح ،أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها ،فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أُتي بها موسى( عليه السلام ) ،ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإِلهية التي خصّهم الله بها ،فإنّه لم ينقصِ عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأُمور دفعة واحدة ،وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناماً ليعبدوها !!
ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنين( عليه السلام ) قائلا: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه .فردّ عليه الإمام صلوات الله عليه قائلا: «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ،ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعَلْ لنا إِلهاً كما لهم آلهة ،فقال إنّكم قوم تجهلون » .
أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا ،لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته ،( فكيف بألوهية الله ) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلاّ واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة ،وقال موسى: إنّكم قوم تجهلون .