التّفسير
قوم فرعون والمصير المؤلم:
بعد هلاك قوم فرعون ،وتحطّم قدرتهم ،وزوال شوكتهم ،ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية اراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) .
و «الإرث » كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة ،سواء كان المنتَقَل منه حياً أو ميّتاً .
و«يستضعفون » مشتقّة من مادة «الاستضعاف » وتطابق كلمة «الاستعمار » التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر ،ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف جماعة أُخرى حتى يمكن للجماعة الأُولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها ،غاية ما هنالك أن هناك تفاوتاً بين هذه اللفظة ولفظة الاستعمار ،وهو: أن الاستعمار ظاهره تعمير الأرض ،وباطنه الإِبادة والتدمير ،ولكن الإِستضعفاف ظاهره وباطنه واحد .
والتعبير ب( كانوا يستضعفون ) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية: ضعف فكري ،وضعف أخلاقي ،وضعف اقتصادي ،ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي .
والتعبير ب ( مشارق الأرض ومغاربها ) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين ،لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة ،وبعبارة أُخرى «ليس لها آفاق متعددة » ولكن الأراضي الواسعة جداً من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّاً .
وجملة ( باركنا فيها ) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقةيعني مصر والشامالتي كانت تعدّ آنذاك ،وفي هذا الزمان أيضاً ،من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات .حتى أن بعض المفسّرين كتب: إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّاً بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضاً .
وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية ،لأنّ هذا يخالف التاريخ حتماً .بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم .
ثمّ يقول: ( وتمت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) أي تحقق الوعد الإِلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين ،بسبب صبرهم وثباتهم .
وهذا هو الوعد الذي أُشير إليه في الآيات السابقة ( الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة ) .
صحيح أنَّ هذه الآية تحدّثت عن بني إِسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط ،إلاّ أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأُخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص ،بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والاستعمار ،استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة ،سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون .
ثمّ يضيف في آخر الآية: نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة ،وأبنيتهم الجميلة الشامخة ،وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة ( ودمرّنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ) .
و«صنع » كما يقول «الراغب » في «المفردات » يعني الأعمال الجميلة ،وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجميلة الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم .
و«ما يعرشون » في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف ،ولها جمال عظيم وروعة باهرة .
و«دمرنا » من مادة «التدمير » بمعنى الإِهلاك والإبادة .
وهنا يطرح السؤال التالي وهو: كيف أبيدت هذه القصور والبساتين ،ولماذا ؟
ونقول في الجواب: لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل ،بل غَرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسى( عليه السلام ) ،ومن المسلَّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة ،والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيراً جداً لاستعادوا بها شوكتهم ،ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل ،أو الحاق الأذى بهم على الأقل .أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد .