شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر ، فتروقه بزينتها ، وتعجبه ، فيميل إليها ، ويهواها ، اغترارا منه بها . حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها ، فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها ، فتعشب ويحسن نباتها ، ويروق منظرها للناظر ، فيغتر بها ، ويظن أنه قادر عليها ، مالك لها ، فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة ، فتصبح كأن لم تكن قبل شيئا ، فيخيب ظنه ، وتصبح يداه منها صفرا .
فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء .
وهذا من أبلغ التشبيه والقياس .
ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها ، قال:{ والله يدعو إلى دار السلام} [ يونس:25] فسماها هنا دار السلام ، لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا ، فعم بالدعوة إليها ، وخص بالهداية من يشاء . فذاك عدله ، وهذا فضله .
فإن قيل:فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس:
{ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله} [ يونس:31] وبين قوله في سورة سبأ:{ قل من يرزقكم من السماء والأرض} [ سبأ:24] .
قيل:هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها ، وألطفها فرقا ، فتدبر السياق تجده نقيضا لما وقع ، فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الاحتجاج عليهم بما أقروا به ، ولم يمكنهم إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم ، ومالك أسماعهم وأبصارهم ، ومدبر أمورهم وغيرها . ومخرج الحي من الميت والميت من الحي .
فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم:إن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره ، فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئا من هذا ، ولا يستطيعون فعل شيء منه ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى:{ فسيقولون الله} [ يونس:31] أي لا بد أنهم يقرون بذلك ، ولا يجحدونه ، فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون به .
والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها بالحق ، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء ، حتى تنتهي إليهم ، ولم يصل علمهم إلى هذا ، فأفردت لفظ السماء هنا ؛ فإنه لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها ، لاسيما والرزق هاهنا إن كان هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب ، فإنه يسمى سماء لعلوه ، وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب في السماء بقوله:{ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء} [ الروم:48] . والسحاب إنما هو مبسوط في جهة العلو ، لا في نفس الفلك ، وهذا معلوم بالحس ، فلا يلتفت إلى غيره ، فلما انتظم هذا بذكر الاحتجاج عليهم لم يصلح فيه إلا إفراد السماء ؛ لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح .
ولا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية ، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية .
فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية ، والتنزلات الإلهية ، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق ، ولكن القوم لم يكونوا مقرين به ، فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم ، بحيث لا يمكنهم إنكاره .
وأما الآية التي في سورة سبأ:فلم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماوات ، ولهذا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب فيها ، ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون . فقال:{ قل من يرزقكم من السماء والأرض} [ سبأ:23] ولم يقل:سيقولون الله . فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السماوات السبع .
وأما الأرض فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الاثنين إذ يقر به كل أحد مؤمن وكافر ، وبر وفاجر .