وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت ، فزاروا المقابر ، ولم يفيقوا من رقدة من إلهاء التكاثر .
وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت ، إيذانا بأنهم غير مسبقين ولا مستقرين في القبور ، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين ، يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها ، كما كانوا في الدنيا زائرين لها ، غير مستقرين فيها ، ودار القرار هي الجنة أو النار .
ولم يعين سبحانه المتكاثر به ، بل ترك ذكره ، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء ، لا المتكاثر به . كما يقال:شغلك اللعب واللهو ، ولم يذكر ما يلعب ويلهو به ، وإما إرادة الإطلاق ، وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا ، من مال أو جاه أو عبيد . أو إماء أو بناء ، أو غراس ، أو علم لا يبتغى به وجه الله ، أو عمل لا يقربه إلى الله . فكل هذا من التكاثر الملهي عن الله والدار الآخرة . وفى «صحيح مسلم » من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه أنه قال:«انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرأ{ ألهاكم التكاثر} قال:يقول ابن آدم:مالي ، مالي ، وهل لك من مال إلا ما تصدقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ؟ » .
ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا ، إذا عاين تكاثره قد ذهب هباء منثورا ، وعلم دنياه التي كاثر بها إنما كانت خدعا وغرورا ، فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له ، وخسر هنالك تكاثره . كما خسر أمثاله . وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه ، وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه ، فعذب بتكاثره في دنياه ، ثم عذب به في البرزخ ، ثم يعذب به يوم القيامة . فكان أشقى بتكاثره ، إذ أفاد منه العطب ، دون الغنيمة والسلامة . فلم يفز من تكاثره إلا بأن صار من الأقلين ، ولم يحفظ به من علوه به في الدنيا بأن حصل مع الأسفلين .
فيا له تكاثرا ما أثقله وزرا ، ما أجلبه من غنى جالبا لكل فقر ، وخيرا توصل به إلى كل شر ، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه{ يا ليتني قدمت لحياتي} [ الفجر:24] ، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي{ رب أرجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت} فقيل له:{ كلا إنها كلمة هو قائلها} [ المؤمنون:99 . 100] تلك كلمة يقولها ، فلا يعول عليها ، ورجعته يسألها ، فلا يجاب إليها .
وتأمل قوله أولا ( رب ) ، استغاث بربه ، ثم التفت إلى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدي ربه تبارك وتعالى ، وقال:{ أرجعون} ، ثم ذكر سبب سؤال الرجعة ، وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه ، فيقال له:{ كلا} لا سبيل لك إلى الرجعة ، وقد عمرت ، ما يتذكر فيه من تذكر .
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استقاله ، وأن يفسح له في المهلة ليتذكر ما فاته ، أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو قائلها ، لا حقيقة تحتها ، وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب ، وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه ، وأنه لو رُدَّ لعاد لما نهى عنه ، وأنه من الكاذبين .
فحكمه أحكم الحاكمين ، وعزته وعلمه وحمده ، يأبى إجابته إلى ما سأل . فإنه لا فائدة من ذلك . ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الأولى ، كما قال تعالى:{ ولو ترى إذ وقفوا على النار قالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [ الأنعام:27 . 28] .