{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} التي تحوي موتاكم من الآباء والأجداد ممن احتواهم العدم ،فلم يعد لهم أيّ أثر في الحياة ،ليزداد بهم الأحياء عدداً .
إنها العقلية المتخلّفة التي تبحث عن الكمّ ولا تبحث عن الكيف ،فترى في تكاثر الأرقام العددية قيمةً وميزةً عن الآخرين .ولكن الله لا يريد لهم ذلك ؛لأن القيمة كل القيمة ،هي في ما يقدّمه الناس على مستوى الفرد أو الجماعة من أعمال صالحة كثيرة ،لتكون الكثرة مشتملةً على المضمون الرسالي الذي يغني تجربة الحياة في حركة المسؤولية التي تبني للإنسان قاعدته الفكرية والعملية على أساسٍ من رسالة الله المتحركة في خطّ طاعته ،بينما تكون الكثرة الفارغة من المضمون أو المشتملة على المعنى الشرّير ،عبئاً على الحياة ،وسبباً لسقوطها في مهاوي الانحطاط الروحي والأخلاقي .
وهذا هو ما أكّده القرآن في أكثر من سورةٍ ،في أن الكثرة المجرّدة لا تعني الحق ،وأن القلّة لا تعني الباطل ،فربما كان أكثر الناس لا يعلمون ولا يفقهون ،وقد يكون أكثرهم كافرين أو فاسقين .ووجّه الخطاب إلى النبي بأن لا يطيع أكثر من في الأرض ؛لأن ذلك قد يكون سبباً في الإضلال ،وهذا ما ينبغي للإنسان العاقل الواعي أن يلتزمه كخطٍّ لحركة القيمة الإنسانية في الحياة ،بأن ينظر إلى عمق المعنى الإنساني ،لا إلى السطح من مظاهره ؛لأن القضية هي قضية المضمون لا قضية الشكل ،ولأن العظمة هي في الحق مهما كان حجمه صغيراً ،في مقابل الباطل ،حتى لو كان حجمه كبيراً ،فإن العظيم هو ما عظّمه الله ،والحقير هو ما حقّره .
ولهذا كان القرآن يستهدف التوبيخ على هذا السلوك الساذج الذي شغل هؤلاء فيه بالتكاثر ،بحيث كانوا يجمعون الأرقام مهما كانت ،بقطع النظر عن فاعليتها وحيويتها وحركيتها في الواقع .