وقد ظن الزمخشري أن قوله:{ اهبطوا منها جميعا} خطاب لآدم وحواء خاصة ، وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما . قال:والدليل عليه قوله تعالى:{ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو} [ طه:123] قال:ويدل على ذلك قوله:{ فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [ البقرة 39 .38] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم .
ومعنى قوله:{ بعضكم لبعض عدو} ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضا .
وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الآية . فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما ، كما قال الله تعالى:{ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [ فاطر:6] ، وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان ، وأعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو ، وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة . فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان . وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس ، وهو ثلاثة ، فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور ، مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه ؟ مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا .
وأما قوله تعالى في سورة طه:{ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو} [ طه:123] وهذا خطاب لآدم وحواء . وقد جعل بعضهم لبعض عدوا ، فالضمير في قوله ( اهبطا منها ) إما أن يرجع إلى آدم وزوجته ، أو إلى آدم وإبليس ، ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له .
وعلى هذا فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط ، وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر .
وأما على الأول – وهو رجوعه لآدم وزوجه - فتكون الآية قد اشتملت على أمرين:
أحدهما:أمره تعالى لآدم عليه السلام وزوجه بالهبوط .
والثاني:إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه ، وبين إبليس . ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني ، دون الأول . ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى:{ إن هذا عدو لك ولزوجك} [ طه:117] وقال لذريته:{ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [ فاطر:6] .
وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع ، دون التثنية .
وأما الإهباط:فتارة يذكره بلفظ الجمع ، وتارة بلفظ التثنية . وتارة بلفظ الإفراد ، كقوله في سورة الأعراف:{ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو} [ الأعراف:24] وكذلك في سورة ص ، وهذا لإبليس وحده .
وحيث ورد بصيغة الجمع ، فهو لآدم وزوجه وإبليس ، إذ مدار القصة عليهم . وحيث ورد بلفظ التثنية ، فأما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية . وإما أن يكون لآدم وإبليس ، إذ هما أبوا الثقلين ، وأصلا الذرية ، فذكر حالهما ومآل أمرهما ، ليكون عظة وعبرة لأولادهما . وقد حكيت القولين في ذلك .
والذي يوضح أن الضمير في قوله:{ اهبطا منها جميعا} [ طه:123] لآدم وإبليس:إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم ، دون زوجه . فقال:{ وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا} [ طه:123 .121] وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم وإبليس الذي زين له المعصية . ودخلت الزوجة تبعا . فإن المقصود إخبار الله تعالى الثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر ، فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط ، وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم ، وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة . فعلم أن حكم الزوجة كذلك ، وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم ، وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الإنس وأمهم ، فتأمله .
وبالجملة:فقوله:{ اهبطوا بعضكم لبعض عدو} ظاهر في الجمع ، فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله:{ اهبطا} من غير موجب .