( قال ) وبقي طور آخر أعلى من هذه الأطوار ، وهو منتهى الكمال وأعني به طور الدين الإلهي والوحي السماوي الذي به كمال الهداية الإنسانية ، وبيانه في قوله تعالى{ ( 38 ) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 39 ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
أمرهم الله تعالى بالهبوط مرتين ، فالأولى بيان لحالهم في أنفسهم بعد الهبوط من تلك الجنة أو الخروج من ذلك الطور وهو أن حالهم تقتضي العداوة والاستقرار في الأرض والتمتع بها ، وعدم الخلود فيها ، والثانية ، بيان لحالهم من حيث الطاعة والمعصية وآثارها ، وهي أن حالة الإنسان في هذا الطور لا تكون عصيانا مستمرا شاملا ، و لا تكون هدى واجتباء عاما – كما كان يفهم لو اقتصر على ذكر توبة الله على آدم وهدايته واجتبائه – وإنما الأمر موكول إلى اجتهاد الإنسان وسعيه ، ومن رحمة الله تعالى به أن يجعل في بعض أفراده الوحي ويعلمهم طرق الهداية ، فمن سلكها فاز وسعد ، ومن تنكبها خسر وشقي ، وهذا هو السر في إعادة ذكر الهبوط لا أنه أعيد للتأكيد كما زعموا .
قال تعالى{ قلنا اهبطوا منها جميعا} أي فقد انتهى طور النعيم الخالص والراحة العامة وادخلوا في طور لكم فيه طريقان:هدى وضلال ، إيمان وكفران ، فلاح وخسران{ فإما يأتينكم مني هدى} من رسول مرشد وكتاب مبين{ فمن تبع هداي} الذي أشرعه ، وسلك صراطي المستقيم الذي أحدده{ فلا خوف عليهم} من وسوسة الشيطان ، ولا مما يعقبها من الشقاء والخسران{ ولا هم يحزنون} على فوت مطلوب ، أو فقد محبوب ، لأنهم يعلمون بهذه الهداية أن الصبر والتسليم مما يرضى الله تعالى ويوجب مثوبته ، ويفتح للإنسان باب الاعتبار بالحوادث ، ويقويه على مصارعة الكوارث ، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته ، وأفضل تعزية عما فقده .
قال الأستاذ الإمام ما مثاله:الخوف عبارة عن تألم الإنسان من توقع مكروه يصيبه ، أو توقع حرمان من محبوب يتمتع به أو يطلبه ، والحزن ألم يلم بالإنسان إذا فقد ما يحب ، وقد أعطانا الله جل ثناؤه الطمأنينة التامة في مقابلة ما تحدثه كلمة ( اهبطوا ) من الخوف من سوء المنقلب .وما تثيره من كوامن الرعب ، فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون مما هو آت ، ولا يحزنون على ما فات ، لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات ، ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة ، ومن كانت هذه وجهته ، يسهل عليه كل ما يستقبله ، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده ، لأنه موقن بأن الله يخلفه ، فيكون كالتعب في الكسب ، لا يلبث أن يزل بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع .
وإذا قال قائل:إن الدين يقيد حرية الإنسان ويمنعه بعض اللذات التي يقدر على التمتع بها .ويحزنه الحرمان منها ، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان ، ويكون بإتباعه الفوز وبتركه الخسران ؟ فجوابه:إن الدين لا يمنع من لذة إلا إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها ، أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذي يفوته من منافع تعاونهم إذا آذاهم أثر مما يناله بالتلذذ وبإيذائهم ، ولو تمثلت لمستحل اللذة المحرمة مضارها التي تعقبها في نفسه وفي الناس ، وتصور ما لها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامة ، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة ، لرجح عنها متمثلا بقول الشاعر:
* لا خير في لذة من بعدها كدر *
فكيف إذا كان مع ذلك يؤمن باليوم الآخر ، ويعلم أن هذه المحرمات تدنس الروح فلا تكون أهلا لدار الكرامة في يوم القيامة .
( قال الأستاذ ) وليست سعادة الإنسان في حرية البهائم بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه .فمن اتبع هداية الله فلا شك أنه يتمتع تمتعا حسنا ويتلقى بالصبر كل ما أصابه ، وبالطمأنينة ما يتوقع أن يصيبه ، فلا يخاف ولا يحزن .
يريد أن رجاء الإنسان فيما وراء الطبيعة هو الذي يقيه من تحكم عوادي الطبيعة فيه ، وبدون ذلك الرجاء تتحكم فيه أشد مما تتحكم في البهائم التي هي أقوى منه طبيعة{ وخلق الإنسان ضعيفا} فالتماس السعادة بحرية البهائم ، هو الشقاء اللازم ، وقد صرح بلفظ التمتع الحسن أخذا من قوله تعالى{ 11:3 وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ) الآية .
فالآيات الدالة على أن سعادة الدنيا معلولة للاهتداء بالدين كثيرة جدا ، وقد حجبها عن كثير من المسلمين قولهم في الكافرين:لهم الدنيا ولنا الآخرة ، يغالطون أنفسهم بحجة القرآن عليهم .وآيات سورة طه في قصة آدم أوضح في المراد من آيات البقرة ، وهي قوله عز وجل{ 20:123 ، 124 قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} الآيات .