آدم ( ع ) في الأرض بين الهداية والضلالة:
] قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا[ والخطاب لآدم وحواءعلى الظاهروإن كان يشمل الأمر بالهبوط إبليس أيضاً ،ففي الأرض مستقركم وحركتكم ومسؤولياتكم ،فليست لكم الحرية في أن تتحرّكوا على مزاجكم في ما تفعلون أو تتركون ،لأنَّ عبوديتكم للّه الذي خلقكم تفرض عليكم أن تخضعوا له ،وتطيعوه في أوامره ونواهيه ،وتسيروا على منهاجه ،] فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى[ مما أوحي به إليكم من خلال رسلي في كلّ شؤونكم العامة والخاصة وفي ما يتصل بدوركم في رعاية الحياة من حولكم ،] فَمَن تَبِعَ هُدَايَ[ وآمن بي وبرسلي وبرسالاتي وباليوم الآخر وعمل صالحاً ،فله الدرجة العليا عندي ،وله النجاة في الآخرة ،وله النعيم الخالد في الجنّة ،حيث الأمن والفرح والطمأنينة الروحية ،] فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[ إذ من يعش في أمان اللّه ،فممّن يخاف ؟ومم يخاف ؟ومن ينفتح على فرح رضوانه ،فكيف يحزن ،وعلى ماذا يحزن ؟!
] الْجنّة[ هل هي الجنّة التي وعد اللّه بها المتقين ،أم هي جنّة أخرى من جنان الأرض مشابهة للجنّة الموعودة ؟لا نريد أن نخوض في الجدل الذي وقع فيه المفسّرون ،لأنَّ ذلك لا يتصل بالفكرة الأساسية للتفسير ،وإن كان الأقرب لجوّ الآيات التي تحدّث فيها القرآن عن الجنّة أن تكون هي نفسها الجنّة الموعودة .وقد يسبق إلى الذهن أنها غيرها ،لأنَّ جنّة اللّه تمثّل الطهر كلّه ،في التفكير ،وفي الممارسة ،وفي الجوّ العام ،فلا مجال فيها للانحراف ،ولا مجال فيها للخطيئة .ولكنَّنا نحسب أنَّ ذلك لا يمنع أن تكون جنّة آدم هي الجنّة ،لأنَّ قضية آدم تمثّل تجربة تدريبية في ضمن الجوّ الذي أريد له أن يعيش فيه مع أولاده من خلال العمل الصالح ،فلا يتنافى ذلك مع الأجواء العامة الطبيعية التي أرادها اللّه للجنّة كدارٍ للثواب وللنعيم الخالد .
] اهْبِطُواْ[: هل هو الهبوط المكاني المادي من السَّماء إلى الأرض ،أم هو الهبوط المعنوي في المنزلة والمكانة والنعيم ؟الظاهر من الكلمة هو الجوّ المادي ،إلاَّ أن يثبت غيره ،ولم يثبت لنا ذلك .
] بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ[: إنَّ هذه التجربة ركزت العداوة وعمّقتها وأوضحت خطوطها الكاملة ،فلم يعد هناك أي مجال للالتباس ،فعلى الإنسان أن يعي دوره الجديد في الأرض ويتعرف إلى أساليب هذا العدو الجديد الذي أخرجه من الجنّة ،وأهبطه إلى الأرض ،ويريدمن جديدأن يبعده عن الجنّة التي تمثّل رحمة اللّه وغفرانه ليشفي غيظه وعقدته الذاتية من تفضيل اللّه لآدم وتكريمه .
] وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ[ إنَّ الأرض هي المجال الجديد الذي يتحرّك فيه آدم من موقع التجربة الحيّة التي انطلقت في حياته بما يشبه الصدمة ،فهزت أعماقه وفجرت فيها الروح الجديدة الخاشعة للّه ،فانطلقت تكتشف الآفاق الرائعة التي يمكن أن تفقدها إذا ابتعدت عن طاعة اللّه ،والآفاق التي يمكن أن تحقّق لها الانسجام مع هواه ،فكانت التوبة يقظة الروح الخاشعة المنسابة في أجواء العبودية ،ليبدأ آدم من خلالها دوره الجديد في خلافته للّه في الأرض ،من موقع الوعي والطهارة والشعور العميق بالمسؤولية ،والحذر من الألاعيب والملابسات التي يلعب من خلالها إبليس لعبة الإغراء والإغواء التي تهيىء أجواء الخطيئة لتنحرف بالإنسان عن دوره الأصيل ،ولم تكن التوبة حالة فريدة في التجربة الأولى لآدم ،بل كانت سبيلاً عاماً يلجأ إليه الإنسان لتصحيح نفسه كلّما انحرف عن الطريق واستسلم لإغواء إبليس ،ليعيش الانفتاح على أجواء الطهارة في كلّ مجال يحسّ فيه بالحاجة إلى التطهّر .
وقد وصف اللّه تعالى نفسه في هذه الآية بأنه التوّاب الرحيم ،ليشعر الإنسان بعمق مبدأ التوبة وامتداده في علاقته باللّه ،باعتبار أنها من صفات اللّه المرتبطة برحمته ،التي لا تنفصل عن حياة الإنسان ،ولذا تحدّث اللّه عنها بصفة المبالغة التي تعني الكثرة .فقد خلق اللّه الإنسان وعرف أنَّ غرائزه قد تثور وتنحرف وتقوده إلى غير ما يرضي اللّه ،فأراد أن يفتح للنّاس أبواب الرجوع إليه في كلّ وقت ،ليستقيموا على طريقه ،ويرجعوا إلى شريعته .
] قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[.
وهنا حدّد اللّه القضية وخطّ السير للإنسان ،المتجسّد بالهدى والعمل الذي ينزله على عباده ،فهو الذي يحدّد له دوره ،وهو الذي يقرر له مصيره .إنه الهدى الذي تتضح فيه الرؤية للبداية والنهاية في خطّ السير ؛الهدى في الفكر ،وفي العمل ،وفي الوسيلة ،وفي الغاية ،وفي جميع مجالات الحياة ،فلا لبس ولا غموض في ذلك كلّه .إنه النور الذي يغدقه اللّه على روح الإنسان وفكره من خلال ألطافه ومن خلال آياته ،لتكون إرادته حرة في الحركة من خلال وضوح الرؤية ،فلا تتجمد أمام عوامل الشك والغموض ،وليكون المصير الإنساني في الآخرة خاضعاً لإرادة الإنسان واختياره بعد قيام الحجة عليه من عند اللّه ،وليشعر الإنسان أولاً وأخيراً بأنَّ الحياة الدنيا تعني مواجهة المسؤولية من خلال الرسالات ،وأنَّ الدار الآخرة تعني مواجهة نتائج المسؤولية من خلال العمل .
هذه هي بعض ملامح القضية في ما تتسع له سورة البقرة ،وسنعود إلى هذه القصة في السور الأخرى التي تتحدّث عنها إن شاء اللّه .
أمّا حصيلتنا من هذه الآياتفي الخطّ العملي لحياتنافهي أن نستفيد من تركيز اللّه على عداوة إبليس لآدم ،لإثارة عمق الإحساس بالعداوة في حياتنا إزاء إبليس وجنوده ،ما يجعلنا نعيش الحذر في الفكرة ،وفي الكلمة ،وفي الخطوات العملية ،وذلك بأن ننفذ إلى أعماق ذلك كلّه في شهواتنا وخلفياتها الذاتية ،لأنَّ الدوافع الشريرة قد تختبىء وراء ستار كثيف من الانطباعات السطحية الخفيفة الكامنة في زوايا النفس ،وقد تتلوّن ببعض الألوان المحببة إلى النفس في ما تقبله أو ترفضه .ثُمَّ نلتفت إلى ما حولنا من الأشياء التي تثيرنا نحو التحرّك ،وإلى من حولنا من النّاس الذين نختلف معهم في جوانب العقيدة والحياة عندما نلتقي بهم في بعض مراحل الطريق ،أو نتفق معهم في بعض خطط العمل ،لندرس كلّ علاقة فكرية أو عملية ،بروح الحذر الذكي الذي لا يتجمّد ليشلَّ في الإنسان جانب الحركة في جوّ الشك ،بل يتحرّك ليبحث عن كلّ السلبيات الكامنة في خلفيات الأشياء والنفوس ،فقد تكون هناك بعض الأمور السيئة الكامنة خلف واجهات الإغراء .
إنَّ علينا أن نضع أمامنا حقيقة العداوة مع الأعداء ،فلا نستسلم لحالات الاسترخاء الطيِّب في نفوسنا للعلاقات الطارئة التي تعيش في جوٍّ حميم ،لأنَّ العدو الذي يعيش الإحساس بالفواصل الفكرية والروحية والعملية التي تفصله عنا ،لا بُدَّ له من التخطيط الفكري والعملي الذي يشل معه قدراتنا عن التحرّك ،ويوحي لنا بالانحراف من حيث لا نريد أو لا نشعر ،فنستسلم للسذاجة الطيبة ،وللكلمات المعسولة ،وللأجواء الحميمة التي يتنامى فيها الشعور بحسن الظنّ ،إنَّ علينا أن نستحضر هذا الإحساس بالفواصل الفكرية والشعورية لنخطط لعملية الثبات على الإيمان من خلال الثبات على القواعد الفكرية والعملية ،لنحفظ خطواتنا من الزلل ،ومشاعرنا من الذوبان ،وأفكارنا من الانحراف ،ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها أعداء الإسلام ،وتتنوّع أساليب الإغراء التي تقتطع من الإسلام قطعة من هنا وقطعة من هناك ،لحساب قضية من القضايا غير الإسلامية ،ليتجمع النّاس حولها فيحسبوها من الإسلام ،وما هي من الإسلام ،إن هي إلاَّ الكفر المقنَّع خلف الواجهات الإسلامية .
إنَّ اللّه يريد من الإنسان أن يعيش الوعي العميق الممتد في كلّ خطواته من خلال وعيه لتجاربه في ما حوله وفي من حوله ،ليسير إلى غاياته على أساس الرؤية الواضحة ،والإرادة الحرة ،لينتهي إلى رحاب اللّه من موقع الطاعة الواعية المستقيمة .