آدم يتوب إلى اللّه تعالى:
] فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ[ ترتفع إلى اللّه من روح خاشعة خاضعة وقلب نابض بالحسرة والندم ،ولسان ينطق بالتوبة ،وكيانٍ يرتجف بالتوسل ،وذلك بالإلهام الإلهي من خلال الفطرة التي توحي بالمعرفة في علاقة النتائج بالمقدمات ،وفي طريقة تغيير الموقف من دائرة السلب إلى دائرة الإيجاب ،ليكون التحوّل الإنساني في الاعتراف بالذنب والاستسلام للندم ،والعزيمة على التصحيح ،والرجوع إلى اللّه بالعودة إلى طاعته في ما يكلفه به من مهمّات ،وفي ما يرشده إليه من إرشادات ،لأنَّ أوامر اللّه الإرشادية تتصل بمحبته لعبده لئلا يقع في قبضة الفساد ،كما تتصل أوامره المولوية بحرصه عليه في البقاء في خطّ الاستقامة ،وابتعاده عن خطّ الانحراف الذي يؤدي به إلى الزلل ويقوده إلى الهلاك .
ولكن ما هي هذه الكلمات ؟
إنَّ الرجوع إلى القصة في سورة الأعراف يوحي بأنَّ آدم الذي انطلق نحو التوبة في عملية تكامل مع حوّاء ،وقف معها ليقولا في توبتهما:] رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [ الأعراف:23] ،ويبدو من خلال هذه الآية ،أنَّ التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض ،بعد التوبيخ الإلهي والتذكير لهما بأنَّ سقوطهما في التجربة الصعبة لم يحصل من حالة غفلةٍ لا تعرف الطريق إلى الوعي ،بل كان حاصلاً بعد التحذير الإلهي من الأكل من الشجرة ،ومن الشيطان ،باعتباره عدوّاً لهما ،وذلك قوله تعالى:] فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجنّة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ[ [ الأعراف:22] .ويؤكد هذا التفسير للكلمات الحديث المرويّ في قوله تعالى:] فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ[ قال: لا إله إلاَّ أنت سبحانك اللّهم وبحمدك ،عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين ،لا إله إلاَّ أنت سبحانك اللّهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الراحمين ،لا إله إلاَّ أنت سبحانك اللّهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وتب عليّ إنَّك أنت التوّاب الرحيم .
وهذا ما ينسجم مع الآية في أصل الفكرة ولكنَّه يختلف عنها في التفاصيل .
وقفة مع صاحب الميزان:
ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا القول ،فيردّه بأنَّ التوبة كما تدل عليه الآيات في هذه السورةأعني سورة البقرةوقعت بعد الهبوط إلى الأرض ،قال تعالى:] وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ[ إلى أن قال:] فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[ الآيات ،وهذه الكلمات تكلّم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنّة كما في سورة الأعراف ،قال تعالى:] وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ[ إلى أن قال:] قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا[ إلى أن قال:] اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ[ [ الأعراف:2224] الآيات ،بل الظاهر أنَّ قولهما:] رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا[ تذلّل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأنَّ الأمر إلى اللّه سبحانه كيف يشاء ،بعد الاعتراف بأنَّ له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران .
ونلاحظ على ذلك ،أنَّ الآيات في سورة الأعراف وطه ،تدل على أنَّ التوبة كانت قبل الهبوط إلى الأرض ،أمّا في الأعراف فإنَّ الظاهر من الآية:] رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا[ إلى آخر الآية أنها تعبير عن التوبة والندم بقرينة:] وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[،فإنَّ مدلولها ،هو طلب الغفران والرحمة من اللّه لإدراكهما النتائج الخاسرة في حالة عدم حصولهما على ذلك ،وليست مجرّد تعبير عن التذلل والخضوع للّه ،في قبال ندائه وإيكال الأمر إليه ،لأنه المالك للأمر كلّه .أمّا في سورة طه ،فقد ذكر التوبة بعد العصيان وذلك قوله تعالى:] فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجنّة وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى[ وذكر الأمر بالهبوط إلى الأرضبعد ذلك] قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً[ [ طه:121123] .
أمّا آية سورة البقرة ،فإنها لا تبتعد عن ذلك إلاَّ من خلال موقع الفاء التي لا مانع من حملها على خلاف الظاهر من الترتيب بقرينة ما جاء في سورة الأعراف وطه ،واللّه العالم .
الكلمات التي تلقّاها آدم ( ع ):
وهناك تفسير آخر للكلمات ؛فقد جاء في الدر المنثور ،للسيوطي ،عن النبيّ ( ص ) قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه ،رفع رأسه إلى السَّماء فقال: أسألك بحقّ محمَّد إلاَّ غفرت لي ،فأوحى اللّه إليه: ومن محمَّد ؟فقال: تبارك اسمك ،لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلاَّ اللّه محمَّد رسول اللّه ،فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك ،فأوحى اللّه إليه: يا آدم إنه آخر النبيّين من ذريتك ،ولولا هو ما خلقتك[ 5] .
وقال الكليني في الكافي: وفي رواية أخرى في قوله تعالى:] فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ[ قال: سأله بحقّ محمَّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين .وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق والعياشي والقمي وغيرهمكما جاء في الميزان[ 6] .
ولكن صاحب الميزان يرى أنَّ هذا المعنى بعيد عن ظاهر الآيات في بادي النظر ،ومع ذلك فإنه يستقربه ،لأنَّ «إشباع النظر والتدبّر فيها ربما قرّب ذلك تقريباً ،إذ قوله:] فَتَلَقَّى ءَادَمُ[،يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال ،ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربّه ،ففيه علم سابق على التوبة ،وقد كان ( ع ) تعلَّم من ربّه الأسماء كلّها ،إذ قال تعالى للملائكة:] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا[،فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كلّ ظلم ومعصية لا محالة ،ودواء كلّ داء وإلاّ لم يتمّ الجواب عمّا أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم:] يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ[ شيئاً ولم يقابلهم بشيء دون أن علَّم آدم الأسماء كلّها ،ففيه إصلاح كلّ فاسد ،وقد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء ،وأنها موجودات عالية مغيَّبة في غيب السَّموات والأرض ،ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها ،لا يتمّ كمال لمستكمل إلاَّ ببركاتها ،وقد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت وأنوارهم حين علم الأسماء ،وورد أنه رآها حين أخرج اللّه ذريته من ظهره ،وورد أيضاً أنه رآها وهو في الجنّة ،فراجع »[ 7] .
مناقشة السيِّد الطباطبائي:
ولنا ملاحظات:
أولاً: إنَّ حمل القرآن على خلاف ظاهره لا بُدَّ فيه من حجة واضحة تقرّب الفكرة الجديدة إلى الفهم العام ،بحيث تتبادر إليه بعد البيان .ولم يثبت سلامة هذه الرِّوايات من حيث التوثيق السندي ،بالإضافة إلى معارضتها بالرِّوايات التي تؤكدها آية الأعراف .
وثانياً: إنَّ العلاّمة الطباطبائي ركّز على كلمة التلقي ،التي تعني معنى الأخذ مع الاستقبال ،ففيه دلالة على أخذ هذه الكلمات من ربّه ،ففيه علم سابق على التوبة .
ولكن الكلمة لا تدل على ذلكبحسب الظهورلأنه يكفي في صدق التلقي الإلهام من خلال الفطرة ،لأنَّ كلّ شيء لدى الإنسان هو من اللّه ،تماماً كما هي الهداية من اللّه ،وليس من الضروري أن يكون هناك علم سابق على التوبة ،بل قد تكون القضية هي إيحاء اللّه له بأن يتوب ويتراجع ليتوب اللّه عليه ،لأنه قد لا يكون عالماً بذلك أو بأساليب التوبة .
هذا مع ملاحظة مهمة ،وهي أنَّ الظاهر من الآية أنَّ التلقي كان بعد المعصية ،ولم يكن في حال جعل الخلافة لآدم .
وإذا لاحظنا الأحاديث ،فإننا نرى أنها تتحدّث عن مبادرة آدم للتوسل بهذه الأسماء من خلال تجربته النفسية ،أو ملاحظته الرؤيوية مما رآه مكتوباً في السَّماء ،أو مما شاهده من أشباح أهل البيت وأنوارهم .
ثالثاً: إننا ناقشنا ما استفاده صاحب الميزان من كلمة الأسماء أنَّ المقصود بها الموجودات الحيّة العاقلة المغيبة في غيب السَّموات والأرض .
وربَّما كان هناك مجال للجمع بين الرِّوايات بأنَّ آدم دعا ربّه بما جاء في سورة طه متوسلاً بالنبيّ ( ص ) وأهل البيت ( ع ) .
ومهما كان الأمر ،فإنَّ اللّه قد أبهم أمر هذه الكلمات ونكّرها ،للإيحاء بأنَّ القضية هي قضية لطف اللّه بآدم في توجيهه نحو التوبة وتقريبه إليه ،للتدليل على كرامته عنده ،بخلاف إبليس الذي سلب اللّه عنه رحمته وأبعده عن مواقع القرب عنده ،فلنجمل ما أجمله اللّه ،ولنقف في التفاصيل على ما تثبت لنا حجيته ،لأنَّ أمر تفسير كلام اللّه من القضايا الكبيرة التي لا مجال للتساهل فيها بالاعتماد على رأي واحد .
توبة آدم ( ع ) بين مرحلتين:
] فَتَابَ عَلَيْهِ[ لأنه عرف منه صدق الندم ،وإخلاص النية ،ووعي الموقف .فآدم ( ع ) لم يخالف أمر ربّه من موقع التمرّد ،بل من حالة ضعف في وعي التجربة الجديدة التي لم يسبق له أن مرّ بها ،أو عرف طبيعتها وخلفياتها ،حيث كان تفكيره يتحرّك في اتجاه صدق محدّثه الذي أقسم له أنه من الناصحين ،فانفتح له قلبه الطاهر الطيب ،وضعفت إرادته أمامه ،وخيّل إليه أنَّ المسألة ليست مسألة عصيان يستتبع غضب اللّه ،بل هي مسألة نصيحة عادية يمكن أن يتجاوز اللّه أمرها في حالة عدم الاستجابة لها ،ولا سيما أنَّ مسألة الالتزامات القانونية الشرعية لم تكن واردة في حسابه ،لأنها ليست مطروحة في المرحلة التي عاشها ،ما جعله لا يعيش الذهنية القانونية في عملية الالتزام بالتعاليم ،فكان ينسى العهد بسرعة ،ويفقد العزم على الاستجابة له من موقع الضعف الإنساني لديه بالإضافة إلى ضعف التجربة في حياته .
وهكذا أدخله اللّه في التجربة التي سقط فيها ،ليضعه بعد ذلك في خطّ التجربة الأصعب في قضايا المسؤولية في الحياة في خطّ الخلافة ،بعد أن اهتزت مشاعره بفعل الصدمة الأولى ،فاجتباه إليه واختاره ليكون أول نبيّ في الأرض ،بل ربما كانت المسألة تتجه في طبيعتها هذا الاتجاه التربوي الذي يتعرض فيه الإنسان الجديد للخطأ في تجربته الأولى ليعرف كيف يقف مع الصواب .وهكذا كانت التوبة نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى .
اللّه هو التوّاب الرحيم:
] إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ لأنه هو الذي خلق في عباده نقاط ضعفهم التي قد يسقطون معها في الخطيئة ،وأراد لهم أن يرجعوا إليه ،ليستقيموا في الخطّ الصحيح ،وليقبلهم من جديد في ساحة طاعته ،وليرحمهم بمغفرته ورضوانه .وأراد اللّه له ولذريتهبعد ذلكأن ينطلقوا في المنهج الإلهي الذي يضع الحياة الإنسانية في خطّين: خطّ الهدى وخطّ الضلال .فإنَّ اللّه ،سبحانه وتعالى ،وضع لهم برنامجاً عملياً في وحيه ،بالإضافة إلى البرنامج الذي يوحي به العقل عندهم ،ليلتزموا به ويستقيموا على نهجه .
مدلول التوبة في حياة الإنسان:
] فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ لعلّ في هذه الآية بعض الدلالة على أنَّ الموقف كلّه في قضية آدم كان تدريبياً من أجل أن يعي الإنسان في مستقبل حياته كيف تتحرّك الخطيئة في نفسه وكيف تدفعه بعيداً عن اللّه .فقد عالجت هذه الآية قضية التوبة ،ووضعتها في نطاق الأشياء المتلقّاة من اللّه ،ما يوحي بأنَّ آدم لا يحمل أية فكرة فطرية عنها ،فكان الإيحاء والإلهام من اللّه من أجل أن يتعلّم كيف يتراجع عن الخطأ ،فلا يستمر عليه .أمّا طبيعة الكلمات ،فقد اختلف المفسّرون فيها ،ولكن الأقرب إلى الذهن هو ما حدّثنا عنه القرآن في سورة الأعراف في قوله تعالى:] قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [ الأعراف:23] .
إنه الشعور العميق بطبيعة الخطأ ،وعلاقته بنفس الخاطىء وحياته ،وانعكاساته على قضية مصيره ،فليست القضية متصلة باللّه باعتبارها شيئاً يسيء إليه أو يمسّ سلطانه ،ولكنَّها متصلة بالموقف الإنساني من اللّه بقدر علاقة الإنسان بموقفه من مصلحة نفسه ،ما يجعل من بقاء الذنب في موقعه ،خسارة كبيرة للإنسان في الدنيا والآخرة ،ويكون طلب المغفرة والرحمة منطلقاً من الرفض الكبير للمصير الخاسر .فلا خسارة أعظم من خسارة الإنسان في علاقة القرب باللّه ،لأنه يخسر بذلك امتداده الإنساني في الطريق المستقيم .
* * *
خطيئة آدم أمام عقيدة الفداء:
ما هي علاقتنا بخطيئة آدم ؟هل يحمل الإنسان عبء خطيئته ،فتتحول إلى هاجس يعيشه في دمه وفي حياته ؟ذلك هو ما يظهر من المسيحية المعروفة الآن التي اعتبرت الخطيئة منذ آدم لازمة لأولاده .ولما كانت الخطيئة تستوجب العقاب ،كان لا بُدَّ من مخلِّص طاهر من الذنب ،يخلِّص البشرية منه ،فيتحمل الآلام والعذاب من أجلها ،«وهكذا أظهر اللّه رحمته بتجسد الكلمة الأزلية ،فلبس هذا الجسد ،وكان يلزم أن يكون هذا الفادي طاهراً قدوساً منزهاً عن النقص حتى يفي للعدل الإلهي حقّه ويخلِّص الخاطئين ،فالمسيح يسوع قام بهذا الأمر وقدّم نفسه فداءً عنا ،فالعدل الإلهي كان يستوجب عقابنا وموتنا ،فمات الفادي عوضاً عنا ووفى للعدل الإلهي حقه » .
إنناكمسلمينلا نقرّ هذه الفكرة ،أولاً: لأننا لا نرى أي ارتباط بين خطيئة آدم وخطايانا من ناحية ذاتية ،بل القضية كلّها هي أنَّ التكوين الإنساني بطبيعته يفسح في المجال لنوازع الخطيئة لأن تبرز وتعبّر عن نفسها بالعصيان .فلآدم أسبابه الطبيعية المستمدة من تجربته في ما عمل ،ولنا أسبابنا الطبيعية في ما عملنا وفي ما نعمل ،فلا ربط لنا بخطيئته من قريب أو بعيد .
ثانياً: إنَّ التفكير الإسلامي يعتبر الخطيئة حالة طارئة في حياة الإنسان ،ويرى أنَّ من الممكن أن تزول بالجهاد النفسي وبالمعاناة والتكفير عنها ،كما يمكن أن تزول آثارها ونتائجها الأخروية من العقاب والغضب الإلهي بالندم والتوبة والإنابة إلى اللّه .وهذا ما عبَّر عنه القرآن في قوله تعالى:] قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ [ الزمر:53] .وبذلك يتحوّل الإنسان إلى صفحة بيضاء ناصعة لا ظلمة فيها ولا سواد ،فأية حاجة بعد ذلك إلى المخلِّص ،فضلاً عن أن يكون المخلِّص هو اللّه نفسه الذي يتحمّل العذاب الجسدي بتجسّده ليستوفي حقّه وعدله .إنه كلام لا نفهم له أساساً معقولاً من خلال وعينا لعظمة الذات الإلهية واستحالة التجسد فيها من جهة ،أو من خلال اعتبار المغفرة موقوفة على استيفاء اللّه لحقّه من نفسه بشكل مادي ،مع أنه الجواد الكريم الذي يفيض بجوده وكرمه على جميع خلقه .
ثالثاً: ما معنى أن يتحمّل شخص العذاب والآلام ليفدي بذلك خطايا البشرية القليلة والكثيرة ؛إذ لا نعقل معنًى لاستيفاء الحقّ بذلك .فإنَّ الفكرة الطبيعية المعقولة هي أن يتحمّل الإنسان مسؤولية خطئه ،فيجني ثمارها بنفسه ،وهذا ما ركّزه القرآن في قوله تعالى:] وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[ [ الأنعام:164] .
وبهذه المناسبة نحبّ أن نشير إلى أنَّ مثل هذه الفكرةوهي فكرة التكفير عن خطايا الآخرين بالآلام التي يتحمّلها شخص معيّن عظيم يقف ليفدي النّاس بذلكقد انتقلت إلى بعض الأساليب الشائعة في عرض قضية الإمام الحسين في ثورته واستشهاده .فإنَّ بعض القارئين للسيرة يحاولون أن يذكروا أنَّ الحسين فدى بنفسه ذنوب شيعته وخطاياهم ،ما يقتضي غفران تلك الذنوب بتضحيته ،إمّا بشكل مباشر ،كما في التفكير المسيحي ،أو بشكل غير مباشر ،باعتبار أنه يشفع لهم من خلال هذه الشهادة .إننا نحبّ أن نسجل ابتعاد هذه الأساليب عن التفكير الإسلامي ،وعن الطابع الإسلامي للثورة الحسينية التي انطلقت من أجل إقامة الحقّ وإزهاق الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،بعيداً عن أية حالة فداء لذنوب الآخرين ،بل هو الفداء والتضحية للحقّ وفي سبيل اللّه .
أمّا حصيلتنا من هذه الآياتفي الخطّ العملي لحياتنافهي أن نستفيد من تركيز اللّه على عداوة إبليس لآدم ،لإثارة عمق الإحساس بالعداوة في حياتنا إزاء إبليس وجنوده ،ما يجعلنا نعيش الحذر في الفكرة ،وفي الكلمة ،وفي الخطوات العملية ،وذلك بأن ننفذ إلى أعماق ذلك كلّه في شهواتنا وخلفياتها الذاتية ،لأنَّ الدوافع الشريرة قد تختبىء وراء ستار كثيف من الانطباعات السطحية الخفيفة الكامنة في زوايا النفس ،وقد تتلوّن ببعض الألوان المحببة إلى النفس في ما تقبله أو ترفضه .ثُمَّ نلتفت إلى ما حولنا من الأشياء التي تثيرنا نحو التحرّك ،وإلى من حولنا من النّاس الذين نختلف معهم في جوانب العقيدة والحياة عندما نلتقي بهم في بعض مراحل الطريق ،أو نتفق معهم في بعض خطط العمل ،لندرس كلّ علاقة فكرية أو عملية ،بروح الحذر الذكي الذي لا يتجمّد ليشلَّ في الإنسان جانب الحركة في جوّ الشك ،بل يتحرّك ليبحث عن كلّ السلبيات الكامنة في خلفيات الأشياء والنفوس ،فقد تكون هناك بعض الأمور السيئة الكامنة خلف واجهات الإغراء .
إنَّ علينا أن نضع أمامنا حقيقة العداوة مع الأعداء ،فلا نستسلم لحالات الاسترخاء الطيِّب في نفوسنا للعلاقات الطارئة التي تعيش في جوٍّ حميم ،لأنَّ العدو الذي يعيش الإحساس بالفواصل الفكرية والروحية والعملية التي تفصله عنا ،لا بُدَّ له من التخطيط الفكري والعملي الذي يشل معه قدراتنا عن التحرّك ،ويوحي لنا بالانحراف من حيث لا نريد أو لا نشعر ،فنستسلم للسذاجة الطيبة ،وللكلمات المعسولة ،وللأجواء الحميمة التي يتنامى فيها الشعور بحسن الظنّ ،إنَّ علينا أن نستحضر هذا الإحساس بالفواصل الفكرية والشعورية لنخطط لعملية الثبات على الإيمان من خلال الثبات على القواعد الفكرية والعملية ،لنحفظ خطواتنا من الزلل ،ومشاعرنا من الذوبان ،وأفكارنا من الانحراف ،ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي يكثر فيها أعداء الإسلام ،وتتنوّع أساليب الإغراء التي تقتطع من الإسلام قطعة من هنا وقطعة من هناك ،لحساب قضية من القضايا غير الإسلامية ،ليتجمع النّاس حولها فيحسبوها من الإسلام ،وما هي من الإسلام ،إن هي إلاَّ الكفر المقنَّع خلف الواجهات الإسلامية .
إنَّ اللّه يريد من الإنسان أن يعيش الوعي العميق الممتد في كلّ خطواته من خلال وعيه لتجاربه في ما حوله وفي من حوله ،ليسير إلى غاياته على أساس الرؤية الواضحة ،والإرادة الحرة ،لينتهي إلى رحاب اللّه من موقع الطاعة الواعية المستقيمة .